(صفحه24)
ولا يخفى عليك ضعفه، فإنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات غير مسلّم، معمخالفة فحول الفن كالمحقّق الخراساني وتلميذه العراقي وغيرهما؛ لاحتمالالثالث الذي اُشير إليه في الكفاية، وهو: أن يكون تمايز العلوم بتمايز المحمولات،هذا أوّلاً.
وثانياً: لا نعلم اعتقاد المشهور ابتداءً بذلك حتّى يستفاد منه احتياج العلومإلى الموضوع، بل يمكن أن تكون المسألة بالعكس بأن تكون مسألة تمايزالعلوم بالموضوعات فرع مسألة احتياج العلوم إلى الموضوع، والمناسب لهذالدليل أن يكون تمايز العلوم بالموضوعات أصلاً في البحث والاعتقاد.
بقي هنا جوابان مهمّان على استدلال المشهور لاحتياج العلوم إلىالموضوع:
الأوّل: أنّ الغرض المترتّب على العلوم كترتّب المعلول على العلّة هليترتّب على نفس المسائل الواقعيّة وقواعدها النفس الأمريّة؟ فمثلاً: الغرضالمترتّب على علم النحو ـ أي صون اللسان عن الخطأ في المقال ـ يترتّب علىوجود كلّ فاعل مرفوع وكلّ مفعول منصوبٌ ونحوهما، ولازم ذلك حصولالغرض لكلّ من كان عنده كتب كثيرة من علم النحو، بل اللازم تكلّم الناسكلاماً صحيحاً من ابتداء تدوينها؛ إذ المسائل التي تكون علّة لوجود ذلكالغرض كانت موجودة.
وبطلانه واضح؛ إذ من المعلوم أنّ حصول الغرض يتوقّف على ثلاثمقدّمات: إحداها: وجود المسائل في الكتب، ثانيتها: الإطّلاع عليها، ثالثتها:رعايتها حين التكلّم. ويحصل من جميع ذلك صون اللسان عن الخطأ في المقال،فلا يكون المؤثّر في الغرض الجامع بين الموضوعات ولو قلنا بوجوده.
(صفحه 25)
الثاني: أنّ الطريق الذي اختاره المشهور للاستدلال يستفاد منه أنّ الجامعبين النسب مؤثّر في الغرض؛ إذ النسبة وإن كانت مؤخّرة عن الموضوعوالمحمول من حيث الرُّتبة إلاّ أنّ المحور والقوام في القضيّة الحمليّة هي النسبةوالرّبط، كما هو الظاهر؛ إذ معنى «زيدٌ عالمٌ»: أنّي اُخبرك بعالميّة زيد، بل ليسالمراد من قولهم: وحدة الغرض تكشف عن جامع واحد إلاّ جامع بين النسب،فإنّ الجامع بين الموضوعات عبارة عن الكلمة والكلام التي هي الموضوع لعلمالنحو، ولا ربط لها بالغرض، ومن البديهي أنّ الجامع بين النسب هو مرفوعيّةالفاعل ومنصوبيّة المفعول ونحوهما، وذلك لا يكون موضوعاً لعلم النحو.
والحاصل: أنّه لا يثبت بدليل المشهور احتياج العلوم إلى الموضوع، كما ليثبت بالدليل الذي ذكرناه بعده.
نعم، يوجد طريق آخر لإثباته ذكره سيّدنا الاُستاذ(1) في التهذيب لغرضآخر، واستفدنا منه احتياج العلوم إلى الموضوع، وهو:
إنّا نرى نوعاً من السنخيّة الذاتيّة بين مسائل العلم وإن اختلفت من حيثالموضوع والمحمول، فإنّا نرى بين مسألة الفاعل مرفوع والمفعول منصوبٌ نوعمن الارتباط الذي لا نراه بين مسألة الفاعل مرفوع ومسألة صيغة الأمر دالّةعلى الوجوب، ومن العجب أنّ المسائل الاُصوليّة مع أنّ قسماً منها مباحثلفظيّة وقسماً آخر مباحث عقليّة ولكن نرى بينهما بالبداهة سنخيّة لا تكونبين مسائل هذا العلم وعلوم اُخر.
إن قلت: إنّ هذه السنخيّة التي تكون بين مسائل العلم سرّها وحدة الغرضفقط.
(صفحه26)
قلنا: إنّه لو فرضنا عدم ترتّب غرض على علم أصلاً مع ذلك نرى السنخيّةالذاتيّة بين نفس المسائل، وهذا يكشف عن وجود الموضوع ووحدته، وميوجب تحقُّق هذه العُلقة بين المسائل شيء نسمّيه بالموضوع، ومن المعلوم أنّهشيء واحد.
فتحقّق إلى هنا احتياج العلوم إلى الموضوع، وأنّه في كلّ علم واحد. إلىهنا تمّ الكلام حول المطلبين الأوّل والثاني.
(صفحه 27)
(صفحه28)
في تعريف الموضوع
المطلب الثالث
في تعريف الموضوع
ذكر المنطقيّون تعريفاً للموضوع وتبعهم الآخرون في ذلك، وهو: أنّموضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة. وإنّا نبحث ههنا بعون اللّهتعالى في جهتين: الاُولى: ما هو المقصود من العرض الذاتي؟ والثانية: هل أنّتعريف المنطقيّين صحيح أم لا؟
أمّا البحث في الجهة الاُولى فإنّه قد تحقّق في المنطق أنّ العرض يستعمل فيقبال الذات والذاتيّات، وأنّ الكلّيّات الخمسة ثلاثة منها ترتبط بالذاتوالذاتيّات، وهي: النوع والجنس والفصل، واثنان منها ترتبط بالعرض، وهما:العرض الخاصّ والعرض العامّ، وهذا أحد التقسيمات للعرض. والتقسيم الآخرله يكون إلى عرض مفارق وعرض لازم، وللعرض اللازم تقسيمٌ إلى اللازمالبيّن واللازم غير البيّن، واللازم البيّن ينقسم إلى البيّن بالمعنى الأخصّ، والبيّنبالمعنى الأعمّ، والمقصود هنا تقسيمه الثالث، وهو أنّ العرض قد يكون ذاتيّوقد يكون غريباً، وذكروا لتنقيح البحث صوراً للعرض.
وعند المشهور بعضها عرض ذاتي بلا إشكال، وبعضها عرض غريب بلريب، وبعضها مختلف فيه، وقالوا: إنّ العرض على ثمانية أقسام: