(صفحه240)
بربع القرآن.
وأمّا جمع أبي بكر فعبارة عن جمعه من الأوراق والأخشاب والجلود فيالقرطاس، كما يشهد له بعض روايات العامّة بأنّ أوّل من جمع القرآن فيالقرطاس هو أبو بكر(1).
وأمّا جمع عثمان فعبارة عن جمع الناس على قراءة واحدة، فإنّ في عصرهبسبب انتشار القرآن بين قبائل العرب واختلافهم في الألسنة اختلفتقراءتهم، ولذا أمر بإحراق المصاحف المكتوبة بسائر القراءات، فيستفاد منهذا انحصار طريق إثبات القرآن بالتواتر فقط.
ولابدّ في كلّ آية من إثبات اُمور ثلاثة فيها بالتواتر: الأوّل: كونها جزء منالقرآن، والثاني: كونها جزء من سورة كذا، والثالث: كونها قبل آية كذا وبعدآية كذا. فكيفيّة إيصال القرآن إلينا مثل كيفيّة إيصاله إلى سائر المسلمين، وهذهو التواتر لا نقل الأئمّة عليهمالسلام .
وأمّا ما قال به صاحب المحاضرات تبعاً للمحقّق النائيني قدسسره فلا يخلو منمناقشة، فإنّه إن كان المراد من الفرض الثاني ـ أي قوله: «نعم، لو فرض كلاموصل إلينا من النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله بلا واسطة الأئمّة عليهمالسلام فيمكن أن تظهر الثمرة فيهإذا فرض الشكّ في مراده صلىاللهعليهوآله منه، إلاّ أنّه فرض في فرض» ـ عدم وجدانمورد نشكّ فيه، قلنا: عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.
وإن كان مراده عدم الوجود بحسب الواقع قلنا: إنّ هذا الادّعاء متوقّفعلى التتبّع والإحاطة بجميع الكتب الروائيّة من المسلمين جميعاً، وهو مشكلجدّاً مع تعدّدها وتنوّعها. فقبول هذا الادّعاء بعيدٌ.
- (1) الإتقان في علوم القرآن: 78.
(صفحه 241)
وأمّا على الفرض الأوّل ـ أي نقل السنّة من النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله بواسطةالأئمّة عليهمالسلام ـ فقد يكون نقل الأئمّة عليهمالسلام نقلاً بالمعنى.
ولا شكّ في حمل الألفاظ على المعاني المتعارفة لابدّ من مراجعة العرفوالحقيقة المتشرّعة، كما أنّه لا شكّ في حملها عليها إن فسّرت السنّة بواسطةالأئمّة عليهمالسلام ، وكما أنّه لا شكّ في حملها عليها إذا نقل عن الأئمّة عليهمالسلام مسألة ثمّاستشهد بكلامه صلىاللهعليهوآله .
وقد يكون نقلهم عليهمالسلام بلا دخل وتصرّف في اللفظ، بل كان لهم عنوان«الرواة المعلوم صدقهم» كرواية سائر الصحابة عنه صلىاللهعليهوآله مثل قول محمّد بنمسلم، قال الصادق عليهالسلام : قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : صلّ عند رؤية الهلال(1).
ومعلوم أنّا نشكّ فيه، فهل مراده صلىاللهعليهوآله عبارة عن المعنى المتعارف عندالمتشرّعة، أو المعنى الحقيقي اللغوي؟ وتظهر ثمرة بحث الحقيقة الشرعيّة في هذالمورد، فإنّه على القول بالثبوت وتأخّر الاستعمال يحمل على المعنى الحادث،وعلى القول بعدم الثبوت أو عدم العلم بتأخّر الاستعمال يحمل على المعنىالحقيقي اللغوي، فلا يكون ترتّب الثمرة قابلاً للإنكار، مع أنّ موارد الشكّ لتكون كثيرة، بل هي قليلة جدّاً.
فإذا كان الأمر كذلك فلابدّ لنا من البحث في هذه المسألة مختصراً، مع قطعالنظر عن الجهات الثلاثة المذكورة في السابق، فقد مرّت إشارتنا إلى قولالمحقّق الخراساني قدسسره وأنّه ذكر طريقاً آخر لإثبات الحقيقة الشرعيّة، وهو: أنّهلما كانت دعوى الوضع التعييني في عهد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله في غاية الإشكال؛ إذ لوكان لنُقل إلينا، فادّعى إمكانه بقوله: إنّ الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح
- (1) هذه الجملة مضمون حديث.
(صفحه242)
بإنشائه ـ كأن يقول: إنّي وضعت لفظ كذا لمعنى كذا ـ كذلك يتحقّق بنفساستعمال اللفظ في معنى يقصد الوضع له والحكاية عنه، لا بالقرينة المجازيّة، وإنكان لابدّ حينئذٍ من نصب القرينة، إلاّ أنّه للدلالة على ذلك لا على إرادة المعنىكما في المجاز، مثل قول الأب الذي لم يوضع لولده اسماً بعدُ: «جئني بولديعليّ» قاصداً به تسمية ولده بـ «عليّ»، فيصير بنفس الاستعمال معنى حقيقيّللّفظ.
ولكن أشكل عليه المحقّق النائيني قدسسره (1) بدعوى أنّ حقيقة الاستعمال إفناءاللفظ في المعنى وإلقاء المعنى في الخارج، بحيث تكون الألفاظ مغفولاً عنها،فالاستعمال يقتضي أن يكون النظر إلى الألفاظ آليّاً، والوضع يستدعي أنيكون النظر إلى الألفاظ استقلاليّاً، فالجمع بين الوضع والاستعمال في شيءيلازم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي، وهو غير معقول، بل محالٌ.
وأجاب عنه الشيخ ضياء الدين العراقي قدسسره (2) على ما في مقالات الاُصول:بأنّ توهّم اجتماع اللحاظين غلطٌ؛ إذ النظر الآلي والمرآتي متوجّه إلى شخصاللفظ المستعمل في مقام الاستعمال، وأمّا النظر الاستقلالي فمتوجّه إلى طبيعةاللفظ ونوعه في مقام الوضع، فإنّ الواضع إذا قال: وضعت لفظ «عليّ» اسماً لهذالمولود لا يكون مراده شخص هذا اللفظ الخارج من فمه، بل يكون مرادهطبيعة هذا اللفظ من أي مستعمل في أيّ مكان يتحقّق، فلا يجتمع اللحاظانفي شيء واحد، فإنّ متعلّق اللحاظ الآلي عبارة عن شخص اللفظ، ومتعلّقاللحاظ الاستقلالي عبارة عن طبيعة اللفظ كما لا يخفى. ثمّ قال في آخر كلامه:
- (1) أجود التقريرات 1: 33 ـ 34.
- (2) مقالات الاُصول: 67 ـ 68.
(صفحه 243)
«والعجب صدور هذا الإشكال من بعض أعاظم المعاصرين على ما في تقريربعض تلامذته».
والتحقيق: أنّ هذا الجواب ليس بتامّ، فإنّه سلّمنا توجّه اللحاظ الآلي إلىاللفظ حال الاستعمال، وتوجّه اللحاظ الاستقلالي إليه في مقام الوضع، والمرادمنه في الأوّل شخصه، وفي الثاني نوعه. ولكن تحقّق ثلاث لحاظات في استعمالواحد غير معقول، مع أنّ لازم كلامه قدسسره تعلّق اللحاظ الآلي بشخص اللفظ،وتعلّق اللحاظ الاستقلالي بنوعه، وتعلّق اللحاظ الاستقلالي الآخر بالمعنى فياستعمال واحد، فكيف يمكن ذلك مع كون المستعمل واحداً وهو شخص اللفظأو نوعه؟!
نعم، يمكن إطلاق اللفظ وإرادة نوعه بحيث كان شخص اللفظ مستعملونوعه مستعملاً فيه، ولكن لم يكن فيه ثلاث لحاظات كما مرّ، فلا يمكنباستعمال واحد تحقّق الوضع والاستعمال معاً.
ولكن يرد على المحقّق النائيني قدسسره إشكال آخر وهو: أنّه لا يوجد دليل علىتعلّق اللحاظ الآلي بالألفاظ في جميع الاستعمالات، بل تختلف المواردباختلاف الأغراض؛ إذ سلّمنا تعلّق اللحاظ التبعي باللفظ في أكثرالاستعمالات، إلاّ أنّ تعلّق اللحاظ الاستقلالي به في بعض الموارد لا يكونقابلاً للإنكار، مثل: مقام أداء الخطابة وكتابة المقالة الأدبيّة؛ إذ الغرض فيهذين المقامين يتعلّق بإفادة المقصود في ضمن الألفاظ الحسنة الجميلة،وهكذا، فإنّ توجّه اللحاظ الآلي أو الاستقلالي إلى اللفظ تابعاً لاقتضاءالمناسبة لأحد منهما، فليس هنا قاعدة كلّيّة بأنّ اللفظ لابدّ فيه من اللحاظالآلي في جميع الاستعمالات.
(صفحه244)
وحينئذٍ نقول: إنّ من الموارد المناسبة التي تقتضي النظر الاستقلالي إلىاللفظ هو الاستعمال المحقِّق للوضع، فلا يجمع بين اللّحاظين الآلي والاستقلالي،فلا يرد هذا الإشكال على المحقّق الخراساني قدسسره وكلامه في محلّه؛ إذ لا شبهة فيوقوع الوضع التعييني على النحو الذي ذكره خارجاً، بل لعلّه كثير بين العرفوالعقلاء في وضع الأعلام الشخصيّة والمعاني المستحدثة.
إنّما الكلام في نفس الاستعمال المحقّق للوضع، هل هو استعمال حقيقي أومجازي أو لا هذا ولا ذاك؟ فيه وجهان، بل قولان، فقد اختار المحقّقالخراساني قدسسره (1) الاحتمال الأخير، وملخّص كلامه: أنّه لا يكون من الاستعمالالحقيقي؛ لأنّ الاستعمال الحقيقي استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له،والمفروض أنّه لا وضع قبل هذا الاستعمال ليكون الاستعمال استعمالاً فيه،وأمّا أنّه لا يكون من الاستعمال المجازي، فلأجل أنّ الاستعمال المجازي استعمالاللفظ في المعنى المناسب للمعنى الموضوع له، والمفروض أنّه لا وضع قبل هذالاستعمال، ومعه لا يعقل المجاز، فلا يكون ذلك الاستعمال حقيقيّاً ولا مجازيّاً،وقد ذكرنا أنّ صحّة الاستعمال لا تدور مدار كونه حقيقيّاً أو مجازيّاً، بل صحّالاستعمال بدون أن يكون متّصفاً بأحدهما إذا كان حسناً عند الطبع، وقدعرفت أنّ إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله من هذا القبيل.
ولكن لقائل أن يقول: إنّ بين الإطلاقات المذكورة وما نحن فيه فرقواضحاً، وقياس أحدهما على الآخر قياس مع الفارق، بأنّ الاستعمال المحقِّقللوضع لا يكون استعمالاً في غير ما وضع له؛ إذ لا يعتبر في كون الاستعمالالحقيقي تقدّم الوضع على الاستعمال، بل غاية ما يقتضيه ذلك هو ألاّ يكون