(صفحه 245)
الوضع متأخّراً عن الاستعمال، فيكفي في كون الاستعمال حقيقيّاً مقارنة الوضعله زماناً، والمفروض أنّ الوضع والاستعمال في هذا المقام كذلك، بخلافالإطلاقات المذكورة فإنّها ليست من قبيل الاستعمال فضلاً من كونهالاستعمالات الحقيقيّة؛ إذ المفروض إطلاق اللفظ وإرادة نوعه مثلاً، ومعلوم أنّهلا سنخيّة بين المعنى ونوع اللفظ، بل هما متباينان كما لا يخفى.
هذا كلّه في الوضع التعييني، وإن قلنا: بعدم تحقّقه أصلاً ولو بالطريق الذيذكره صاحب الكفاية قدسسره فإنّه وإن كان ممكناً ولكنّه ليس لكلّ ممكن وقوعوثبوت، فتصل النوبة إلى الوضع التعيّني الذي منشأه كثرة الاستعمال، لالجعل والمواضعة، فقد ذكرنا أنّه لا يصحّ إطلاق كلمة الوضع عليه؛ لأنّ هذالمنشأ يوجب صيرورة المعنى معنى حقيقيّاً، والحقيقة أعمّ مطلقاً من الوضع،ولكن نعبّر عنه بالوضع تبعاً لصاحب الكفاية قدسسره .
ولا شكّ ولا شبهة في تحقّق الوضع التعيّني، فإنّ ثبوته في زمنالصادقين عليهماالسلام معلوم، بل الإنصاف يحكم حتّى بثبوته في زمن أمير المؤمنين عليهالسلام ولا سيّما في زمن خلافته عليهالسلام ، بل ولا يبعد ثبوته في عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله بلسانهولسان تابعيه؛ لكثرة استعمالات هذه الألفاظ في هذه المعاني وكثرة الأسئلةالتي ترد من السائلين، وجوابه صلىاللهعليهوآله عنها، ونقلهم الجواب بينهم، وإخبارهمبالآخرين.
نعم، ثبوته في خصوص لسانه صلىاللهعليهوآله مشكل جدّاً؛ لعدم العلم بكثرةاستعمالاته صلىاللهعليهوآله على حدّ يوجب التعيّن، كما أشار إليه في الكفاية. ولكنّه لا يضرّبالمقصود؛ إذ الملاك في الوضع التعيّني، وما يوجب حمل الألفاظ على المعانيالمستحدثة بلا قرينة هو كثرة الاستعمال في المجتمع الإسلامي في عصره صلىاللهعليهوآله
(صفحه246)
لا كثرة الاستعمال في خصوص لسانه صلىاللهعليهوآله فلا نحتاج في تحقّق الوضع التعيينيإلى كثرة الاستعمال في خصوص لسانه صلىاللهعليهوآله بل يكفي كثرة الاستعمال في النظامالإسلامي، ومعلوم أنّه في هذا المقام كذلك، فهو الملاك لقاطبة المسلمين، ولفرق فيه بين الشارع وغيره، فتترتّب الثمرة المذكورة لبحث الحقيقة الشرعيّةعلى الوضع التعيّني أيضاً.
بقي الكلام في مورد تحقّق الثمرة ومورد ترتّبها على هذا البحث، فقد مرّ عنالمحقّق الخراساني قدسسره قوله: «وأمّا الثمرة بين القولين فتظهر في لزوم حمل الألفاظالواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغويّة مع عدم الثبوت، وعلىمعانيها الشرعيّة على الثبوت فيما إذا علم تأخّر الاستعمال، وفيما إذا جهلالتأريخ ففيه إشكال...» الخ.
ولا يخفى أنّ في صورة إحراز تأخّر الاستعمال عن الوضع لا إشكال فيترتّب الثمرة عليها ـ كما مرّ ـ وإنّما الكلام في صورة الجهل بتاريهما أو أحدهما،فهل يحمل اللفظ الصادر عن الشارع كقوله صلىاللهعليهوآله مثلاً: «صلّ عند رؤية الهلال»على المعنى اللغوي أو الشرعي؟ وهنا قولان، ولكلّ منهما دليل لا يكون قابلللمساعدة عليه، بل مردود كما سيأتي:
أحدهما: أنّه يحمل على المعنى الشرعي؛ لأصالة تأخّر الاستعمال عنالوضع.
وثانيهما: أنّه يحمل على المعنى اللغوي؛ لأصالة عدم النقل عن المعنىاللغوي.
أمّا الاستناد إلى أصالة تأخّر الاستعمال إن كان من حيث كونه أصلعقلائيّاً باسم أصالة تأخّر الحادث ـ بمعنى أنّ أصل تحقّق الحادث مثل مجيء
(صفحه 247)
«زيد» من السفر معلوم، ولكن لا نعلم تحقّقه في يوم الخميس أو الجمعة،فأصالة تأخّر الحادث حاكم بتحقّقه في يوم الجمعة ـ فجوابه إنّا من العقلاء ولنرى عندهم من هذا الأصل أثراً ولا خبراً حتّى يزيل به الشكّ، بل العقلاءيحكمون بالتبيّن في المثال المذكور.
وأمّا إذا كان الاستناد إليه من حيث كونه أصلاً شرعيّاً بدليل «لا تنقضاليقين بالشكّ»(1) فهو أيضاً مردودٌ؛ إذ لابدّ في الاستصحاب أوّلاً: من حالةمتيقّنة سابقة، وثانياً: من كون المستصحب حكماً شرعيّاً ـ مثل: استصحابوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ـ أو موضوعاً للحكم الشرعي ـ مثل:استصحاب عدالة «زيد» لجواز الاقتداء به ـ وإلاّ فلا معنى لجريانه، ولو كانالمستصحب ملازماً لشيء يكون هذا الشيء موضوعاً للحكم الشرعي.
وحينئذٍ إذا كان في المثال المذكور نفس عنوان التأخّر مجرى الاستصحابفلا يتحقّق فيه الشرط الأوّل؛ إذ ليس له حالة سابقة متيقّنة. وأمّا إذا كانالمستصحب عدم مجيء «زيد» يوم الخميس ـ كما في المثال المذكور ـ فليتحقّق فيه الشرط الثاني، فإنّا نتيقّن بعدم صدور «صلّ عند رؤية الهلال» فيأوائل ظهور الإسلام ـ مثلاً ـ لأنّه فرضنا أنّ الوضع تحقّق في السنة الخامسةمن البعثة، ونشكّ في صدور هذه الجملة في السنة الرابعة أو السادسة،فيستصحب عدم صدورها قبل السنة السادسة، فيكون المستصحب أمرعدميّاً، ولا يكون حكماً شرعيّاً ولا موضوعاً للحكم الشرعي.
نعم، هو ملازم لتأخّر الصدور عن الوضع، فيحمل على المعنى الشرعي،ولكنّه ملازم عقليّ، وهو كما ترى.
- (1) الوسائل 1: 245، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.
(صفحه248)
مع أنّه لو سلّمنا ثبوت تأخّر الصدور عن الوضع بالاستصحاب فلا يترتّبعليه أثر شرعي؛ إذ لا يكون في لسان الدليل الشرعي موضوع له، بأنّه إذكان الاستعمال متأخّراً عن الوضع فيجب أن يحمل على المعنى الشرعي، بلهو حكم عقليّ.
على أنّه لو قلنا بصحّة جريانه فهي منحصرة بصورة العلم بتأريخ الوضعوالشكّ في تأريخ الاستعمال، وأمّا إذا كان كلاهما مجهول التأريخ فيكون كلاهمأمراً حادثاً، ويجري الأصل المذكور فيهما معاً، فلا يكون هذا الأصل قابلللتمسّك أصلاً.
وأمّا القول الثاني ـ وهو الحمل على المعنى اللّغوي؛ لأصالة عدم النقل ـ فقدذكرنا فيما تقدّم أنّها أصل عقلائي، إلاّ أنّ مورده عبارة عن الشكّ في أصلالنقل إلى المعنى الحادث، وأمّا إذا كان أصل النقل متيقّناً وتقدّمه علىالاستعمال كان مشكوكاً فنعلم بعدم جريان أصالة عدم النقل فيه، ولا أقل منالشكّ في جريانه، فيحتاج جريان أصل مشكوك الاعتبار إلى دليل، ومعلومأنّه لا دليل على جريانه.
والحاصل: أنّه ولو كان أصل ترتّب الثمرة على هذا البحث ـ مع قطع النظرعن الجهات المذكورة في ابتداء البحث ـ قابلاً للمساعدة عليه إلاّ أنّ شرطهإحراز تأخّر الاستعمال عن الوضع، وهو يتفّق نادراً لا دائماً كما هو المعلوم. هذتمام الكلام في البحث عن الحقيقة الشرعيّة.
(صفحه 249)