(صفحه 243)
«والعجب صدور هذا الإشكال من بعض أعاظم المعاصرين على ما في تقريربعض تلامذته».
والتحقيق: أنّ هذا الجواب ليس بتامّ، فإنّه سلّمنا توجّه اللحاظ الآلي إلىاللفظ حال الاستعمال، وتوجّه اللحاظ الاستقلالي إليه في مقام الوضع، والمرادمنه في الأوّل شخصه، وفي الثاني نوعه. ولكن تحقّق ثلاث لحاظات في استعمالواحد غير معقول، مع أنّ لازم كلامه قدسسره تعلّق اللحاظ الآلي بشخص اللفظ،وتعلّق اللحاظ الاستقلالي بنوعه، وتعلّق اللحاظ الاستقلالي الآخر بالمعنى فياستعمال واحد، فكيف يمكن ذلك مع كون المستعمل واحداً وهو شخص اللفظأو نوعه؟!
نعم، يمكن إطلاق اللفظ وإرادة نوعه بحيث كان شخص اللفظ مستعملونوعه مستعملاً فيه، ولكن لم يكن فيه ثلاث لحاظات كما مرّ، فلا يمكنباستعمال واحد تحقّق الوضع والاستعمال معاً.
ولكن يرد على المحقّق النائيني قدسسره إشكال آخر وهو: أنّه لا يوجد دليل علىتعلّق اللحاظ الآلي بالألفاظ في جميع الاستعمالات، بل تختلف المواردباختلاف الأغراض؛ إذ سلّمنا تعلّق اللحاظ التبعي باللفظ في أكثرالاستعمالات، إلاّ أنّ تعلّق اللحاظ الاستقلالي به في بعض الموارد لا يكونقابلاً للإنكار، مثل: مقام أداء الخطابة وكتابة المقالة الأدبيّة؛ إذ الغرض فيهذين المقامين يتعلّق بإفادة المقصود في ضمن الألفاظ الحسنة الجميلة،وهكذا، فإنّ توجّه اللحاظ الآلي أو الاستقلالي إلى اللفظ تابعاً لاقتضاءالمناسبة لأحد منهما، فليس هنا قاعدة كلّيّة بأنّ اللفظ لابدّ فيه من اللحاظالآلي في جميع الاستعمالات.
(صفحه244)
وحينئذٍ نقول: إنّ من الموارد المناسبة التي تقتضي النظر الاستقلالي إلىاللفظ هو الاستعمال المحقِّق للوضع، فلا يجمع بين اللّحاظين الآلي والاستقلالي،فلا يرد هذا الإشكال على المحقّق الخراساني قدسسره وكلامه في محلّه؛ إذ لا شبهة فيوقوع الوضع التعييني على النحو الذي ذكره خارجاً، بل لعلّه كثير بين العرفوالعقلاء في وضع الأعلام الشخصيّة والمعاني المستحدثة.
إنّما الكلام في نفس الاستعمال المحقّق للوضع، هل هو استعمال حقيقي أومجازي أو لا هذا ولا ذاك؟ فيه وجهان، بل قولان، فقد اختار المحقّقالخراساني قدسسره (1) الاحتمال الأخير، وملخّص كلامه: أنّه لا يكون من الاستعمالالحقيقي؛ لأنّ الاستعمال الحقيقي استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له،والمفروض أنّه لا وضع قبل هذا الاستعمال ليكون الاستعمال استعمالاً فيه،وأمّا أنّه لا يكون من الاستعمال المجازي، فلأجل أنّ الاستعمال المجازي استعمالاللفظ في المعنى المناسب للمعنى الموضوع له، والمفروض أنّه لا وضع قبل هذالاستعمال، ومعه لا يعقل المجاز، فلا يكون ذلك الاستعمال حقيقيّاً ولا مجازيّاً،وقد ذكرنا أنّ صحّة الاستعمال لا تدور مدار كونه حقيقيّاً أو مجازيّاً، بل صحّالاستعمال بدون أن يكون متّصفاً بأحدهما إذا كان حسناً عند الطبع، وقدعرفت أنّ إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله من هذا القبيل.
ولكن لقائل أن يقول: إنّ بين الإطلاقات المذكورة وما نحن فيه فرقواضحاً، وقياس أحدهما على الآخر قياس مع الفارق، بأنّ الاستعمال المحقِّقللوضع لا يكون استعمالاً في غير ما وضع له؛ إذ لا يعتبر في كون الاستعمالالحقيقي تقدّم الوضع على الاستعمال، بل غاية ما يقتضيه ذلك هو ألاّ يكون
(صفحه 245)
الوضع متأخّراً عن الاستعمال، فيكفي في كون الاستعمال حقيقيّاً مقارنة الوضعله زماناً، والمفروض أنّ الوضع والاستعمال في هذا المقام كذلك، بخلافالإطلاقات المذكورة فإنّها ليست من قبيل الاستعمال فضلاً من كونهالاستعمالات الحقيقيّة؛ إذ المفروض إطلاق اللفظ وإرادة نوعه مثلاً، ومعلوم أنّهلا سنخيّة بين المعنى ونوع اللفظ، بل هما متباينان كما لا يخفى.
هذا كلّه في الوضع التعييني، وإن قلنا: بعدم تحقّقه أصلاً ولو بالطريق الذيذكره صاحب الكفاية قدسسره فإنّه وإن كان ممكناً ولكنّه ليس لكلّ ممكن وقوعوثبوت، فتصل النوبة إلى الوضع التعيّني الذي منشأه كثرة الاستعمال، لالجعل والمواضعة، فقد ذكرنا أنّه لا يصحّ إطلاق كلمة الوضع عليه؛ لأنّ هذالمنشأ يوجب صيرورة المعنى معنى حقيقيّاً، والحقيقة أعمّ مطلقاً من الوضع،ولكن نعبّر عنه بالوضع تبعاً لصاحب الكفاية قدسسره .
ولا شكّ ولا شبهة في تحقّق الوضع التعيّني، فإنّ ثبوته في زمنالصادقين عليهماالسلام معلوم، بل الإنصاف يحكم حتّى بثبوته في زمن أمير المؤمنين عليهالسلام ولا سيّما في زمن خلافته عليهالسلام ، بل ولا يبعد ثبوته في عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله بلسانهولسان تابعيه؛ لكثرة استعمالات هذه الألفاظ في هذه المعاني وكثرة الأسئلةالتي ترد من السائلين، وجوابه صلىاللهعليهوآله عنها، ونقلهم الجواب بينهم، وإخبارهمبالآخرين.
نعم، ثبوته في خصوص لسانه صلىاللهعليهوآله مشكل جدّاً؛ لعدم العلم بكثرةاستعمالاته صلىاللهعليهوآله على حدّ يوجب التعيّن، كما أشار إليه في الكفاية. ولكنّه لا يضرّبالمقصود؛ إذ الملاك في الوضع التعيّني، وما يوجب حمل الألفاظ على المعانيالمستحدثة بلا قرينة هو كثرة الاستعمال في المجتمع الإسلامي في عصره صلىاللهعليهوآله
(صفحه246)
لا كثرة الاستعمال في خصوص لسانه صلىاللهعليهوآله فلا نحتاج في تحقّق الوضع التعيينيإلى كثرة الاستعمال في خصوص لسانه صلىاللهعليهوآله بل يكفي كثرة الاستعمال في النظامالإسلامي، ومعلوم أنّه في هذا المقام كذلك، فهو الملاك لقاطبة المسلمين، ولفرق فيه بين الشارع وغيره، فتترتّب الثمرة المذكورة لبحث الحقيقة الشرعيّةعلى الوضع التعيّني أيضاً.
بقي الكلام في مورد تحقّق الثمرة ومورد ترتّبها على هذا البحث، فقد مرّ عنالمحقّق الخراساني قدسسره قوله: «وأمّا الثمرة بين القولين فتظهر في لزوم حمل الألفاظالواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغويّة مع عدم الثبوت، وعلىمعانيها الشرعيّة على الثبوت فيما إذا علم تأخّر الاستعمال، وفيما إذا جهلالتأريخ ففيه إشكال...» الخ.
ولا يخفى أنّ في صورة إحراز تأخّر الاستعمال عن الوضع لا إشكال فيترتّب الثمرة عليها ـ كما مرّ ـ وإنّما الكلام في صورة الجهل بتاريهما أو أحدهما،فهل يحمل اللفظ الصادر عن الشارع كقوله صلىاللهعليهوآله مثلاً: «صلّ عند رؤية الهلال»على المعنى اللغوي أو الشرعي؟ وهنا قولان، ولكلّ منهما دليل لا يكون قابلللمساعدة عليه، بل مردود كما سيأتي:
أحدهما: أنّه يحمل على المعنى الشرعي؛ لأصالة تأخّر الاستعمال عنالوضع.
وثانيهما: أنّه يحمل على المعنى اللغوي؛ لأصالة عدم النقل عن المعنىاللغوي.
أمّا الاستناد إلى أصالة تأخّر الاستعمال إن كان من حيث كونه أصلعقلائيّاً باسم أصالة تأخّر الحادث ـ بمعنى أنّ أصل تحقّق الحادث مثل مجيء
(صفحه 247)
«زيد» من السفر معلوم، ولكن لا نعلم تحقّقه في يوم الخميس أو الجمعة،فأصالة تأخّر الحادث حاكم بتحقّقه في يوم الجمعة ـ فجوابه إنّا من العقلاء ولنرى عندهم من هذا الأصل أثراً ولا خبراً حتّى يزيل به الشكّ، بل العقلاءيحكمون بالتبيّن في المثال المذكور.
وأمّا إذا كان الاستناد إليه من حيث كونه أصلاً شرعيّاً بدليل «لا تنقضاليقين بالشكّ»(1) فهو أيضاً مردودٌ؛ إذ لابدّ في الاستصحاب أوّلاً: من حالةمتيقّنة سابقة، وثانياً: من كون المستصحب حكماً شرعيّاً ـ مثل: استصحابوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ـ أو موضوعاً للحكم الشرعي ـ مثل:استصحاب عدالة «زيد» لجواز الاقتداء به ـ وإلاّ فلا معنى لجريانه، ولو كانالمستصحب ملازماً لشيء يكون هذا الشيء موضوعاً للحكم الشرعي.
وحينئذٍ إذا كان في المثال المذكور نفس عنوان التأخّر مجرى الاستصحابفلا يتحقّق فيه الشرط الأوّل؛ إذ ليس له حالة سابقة متيقّنة. وأمّا إذا كانالمستصحب عدم مجيء «زيد» يوم الخميس ـ كما في المثال المذكور ـ فليتحقّق فيه الشرط الثاني، فإنّا نتيقّن بعدم صدور «صلّ عند رؤية الهلال» فيأوائل ظهور الإسلام ـ مثلاً ـ لأنّه فرضنا أنّ الوضع تحقّق في السنة الخامسةمن البعثة، ونشكّ في صدور هذه الجملة في السنة الرابعة أو السادسة،فيستصحب عدم صدورها قبل السنة السادسة، فيكون المستصحب أمرعدميّاً، ولا يكون حكماً شرعيّاً ولا موضوعاً للحكم الشرعي.
نعم، هو ملازم لتأخّر الصدور عن الوضع، فيحمل على المعنى الشرعي،ولكنّه ملازم عقليّ، وهو كما ترى.
- (1) الوسائل 1: 245، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.