(صفحه248)
مع أنّه لو سلّمنا ثبوت تأخّر الصدور عن الوضع بالاستصحاب فلا يترتّبعليه أثر شرعي؛ إذ لا يكون في لسان الدليل الشرعي موضوع له، بأنّه إذكان الاستعمال متأخّراً عن الوضع فيجب أن يحمل على المعنى الشرعي، بلهو حكم عقليّ.
على أنّه لو قلنا بصحّة جريانه فهي منحصرة بصورة العلم بتأريخ الوضعوالشكّ في تأريخ الاستعمال، وأمّا إذا كان كلاهما مجهول التأريخ فيكون كلاهمأمراً حادثاً، ويجري الأصل المذكور فيهما معاً، فلا يكون هذا الأصل قابلللتمسّك أصلاً.
وأمّا القول الثاني ـ وهو الحمل على المعنى اللّغوي؛ لأصالة عدم النقل ـ فقدذكرنا فيما تقدّم أنّها أصل عقلائي، إلاّ أنّ مورده عبارة عن الشكّ في أصلالنقل إلى المعنى الحادث، وأمّا إذا كان أصل النقل متيقّناً وتقدّمه علىالاستعمال كان مشكوكاً فنعلم بعدم جريان أصالة عدم النقل فيه، ولا أقل منالشكّ في جريانه، فيحتاج جريان أصل مشكوك الاعتبار إلى دليل، ومعلومأنّه لا دليل على جريانه.
والحاصل: أنّه ولو كان أصل ترتّب الثمرة على هذا البحث ـ مع قطع النظرعن الجهات المذكورة في ابتداء البحث ـ قابلاً للمساعدة عليه إلاّ أنّ شرطهإحراز تأخّر الاستعمال عن الوضع، وهو يتفّق نادراً لا دائماً كما هو المعلوم. هذتمام الكلام في البحث عن الحقيقة الشرعيّة.
(صفحه 249)
(صفحه250)
في الصحيح والأعمّ
الأمر العاشر
الصحيح والأعمّ
إنّ الأصل في استعمالات الشارع لألفاظ العبادات هو الصحيح أو الأعمّ،ولا يخفى أنّه بحث مستقلّ في مقابل بحث الحقيقة الشرعيّة ولازمه أنّ جميعالأقوال والآراء في البحث السابق تأتي في هذا البحث أيضاً، وإلاّ لم يكن لهاستقلال، فقد تحقّق في البحث السابق بعد التتبع أنّ الأقوال أربعة: أحدها:القول بالوضع التعييني لألفاظ العبادات للمعاني المستحدثة، وثانيها: القولبالوضع التعيّني الذي نسمّيه باسم «الحقيقة التعيّنيّة» ثالثها: استعمال الألفاظفي المعاني المستحدثة دائماً بصورة المجاز بدون الوضع التعيّني والتعييني، رابعها:القول بأنّ ألفاظ العبادات استعملت في لسان الشارع في معانيها اللغويّة ولكنّهأراد المعاني الشرعيّة من جهة نصب القرينة الدالّة على ذلك بنحو تعدّد الدالوالمدلول، وهو المنسوب إلى الباقلاّني(1).
إذا عرفت هذا فنقول: لابدّ لنا في هذا البحث من عنوان جامع للأراءالمذكورة، فإنّه بحث مستقلّ كما هو المفروض، ولكنّ التعبير الدائر بينالاُصوليّين في عنوان هذا البحث عبارة عن أنّ ألفاظ العبادات هل هي
- (1) اُنظر: كفاية الاُصول 1: 35، شرح العضدي على مختصر الاُصول 1: 51 ـ 52.
(صفحه 251)
موضوعة للصحيح أو الأعمّ؟ وهذا التعبير يشمل القول بثبوت الحقيقةالشرعيّة فقط، فإنّ منكريها منكرون لأصل الوضع، فلا معنى للوضعللصحيح أو الأعمّ عندهم، وهذا التعبير ليس بجامع للأقوال والأراء.
وأمّا المحقّق الخراساني قدسسره (1) فقد عبّر بأنّ ألفاظ العبادات أسامي لخصوصالصحيحة أو الأعمّ منها.
لكن لا يندفع به تمام الإشكال؛ لأنّه يشمل القولين: القول بالوضع التعيينيكما هو المعلوم، وهكذا القول بالوضع التعيّني، فإنّ بعد كثرة استعمال لفظ«الصلاة» في الأركان المخصوصة على حدٍّ لا يحتاج في الدلالة عليها إلى قرينةيصدق أنّ لفظ «الصلاة» صار اسماً لها، كما أنّ في كلمة «الأسد» بعد الاستعمالفي الرجل الشجاع بهذا الحدّ يصدق أنّ «الأسد» صار اسماً للرجل الشجاع،بخلاف القول بالمجاز فإنّ الاستعمال على هذا القول يحتاج إلى قرينة دائماً،وعليه لا يصدق أنّ «الصلاة» صارت اسماً للأركان المخصوصة، فهذا التعبيرأيضاً لا يكون جامعاً للآراء والأقوال.
والأولى في التعبير ما ذكرناه في عنوان البحث، فيدخل فيه الجميع حتّىقول الباقلاّني على توجيه، أمّا شموله للقول بالوضع التعييني وكذا القولبالحقيقة التعيّنيّة فمعلوم لا كلام فيه.
وأمّا على القول بالمجاز ـ سواء استعملت الألفاظ في الصحيح أو الفاسد فلأنّ الأصل في هذه الألفاظ المستعملة في كلام الشارع مجازاً هو استعمالها فيخصوص الصحيحة أو الأعمّ، بمعنى أنّ أيّهما كان فقد اعتبرت العلاقة بينهوبين المعاني اللغويّة ابتداء، واستعمل في الآخر بتبعه ومناسبته، كي ينزّل
(صفحه252)
كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغويّة، وعدم قرينة اُخرى معيّنةللآخر، فيكون أحدهما مجازيّاً في طول الآخر لا في عرضه، كما قال به صاحبالكفاية قدسسره . ويعبّر عنه في العلوم الأدبيّة بسبك المجاز عن المجاز، وكان له أثر فيمقام العمل، فإنّ الشارع إذا أراد من اللفظ معناه المجازي الأوّل فلابدّ له مننصب قرينة صارفة عن المعنى اللّغوي بدون نصب قرينة معيّنة اُخرى، وأمّإذا أراد منه معناه المجازي الثاني فلينصب قرينتين: صارفة ومعيّنة، فيمكن أنيقول البعض بالأصالة للصحيح والتبعيّة للأعمّ، والبعض الآخر بالعكس.
وأمّا على قول الباقلاّني فبأنّ الألفاظ مستعملة في معانيها اللغويّة، ولكنالخصوصيّات من الأجزاء والشرائط مستفادة من القرينة، وهي قد تكونبألفاظ مفصّلة خاصّة، مثل: أن يقال: «صلّ» و«اسجد» و«اركع» إلى غيرذلك، وحينئذٍ لم يكن أي نزاع.
وقد تكون باللفظ الجامع العامّ بأن يقال: «صلّ» ويضمّ إليه لفظ جامعلشتاتها، وحينئذٍ أمكن النزاع بأنّ المراد من هذه القرينة الجامعة هل يكونجميع ما يعتبر من الأجزاء والشرائط أو في الجملة؟ فيعبّر عن الأوّل بالصحيحوعن الثاني بالأعمّ.
ولابدّ لنا قبل الخوض في أصل البحث من ذكر اُمور:
الأوّل: تعريف الصحّة والفساد ومعناهما، فقد صرّح المحقّق الخراساني قدسسره (1)في مواضع متعدّدة بأنّ الصحّة عند الكلّ بمعنى واحد وهي التماميّة، ولامحالةيكون الفساد بمعنى النقصان.
ويستفاد من كلامه أنّ الصحّة والتماميّة كانتا مترادفتين، كما أنّ الفساد
- (1) كفاية الاُصول 1: 34 ـ 35.