(صفحه 325)
بدخالة مفهوم وعنوان الصحيح في الموضوع له بالحمل الأوّلي كقولنا: «البيعهو العقد الصحيح»، فلازمه الانتقال الذهني من استماع لفظ البيع إلى مفهومالصحيح، كالانتقال من لفظ البيع إلى العقد، مع أنّ الوجدان والتبادر بخلافه،فلا دخل لمفهوم الصحيح في الموضوع له بهذه الكيفيّة.
وأمّا لو قلنا بدخالة عنوان الصحيح فيه بالحمل الشائع الصناعي، بمعنى أنّالبيع هو العقد الذي يقع في الخارج صحيحاً، ومعلوم أنّ البيع الواقع فيالخارج ليس بكلّي، وهذا لا يناسب ما قاله في باب العبادات ووضع الحروف،فإنّه قال في باب العبادات وهكذا في وضع الحروف بخلاف مقولة المشهور منأنّ الوضع والموضوع له فيهما عامّان، ويستكشف أنّ هذا مبناه في بابالمعاملات أيضاً، فلا يمكنه الالتزام بدخالته فيه بالحمل الشائع، فلا محيص لهعن القول بوضع ألفاظ المعاملات للماهيّة التي إذا وجدت لا تنطبق إلاّ علىالصحيح المؤثّر، فالبيع هو العقد الذي إذا وجد في الخارج كان صحيحاً، فنفسهذا العنوان كلّي لا ينطبق إلاّ على الأفراد الصحيحة.
إلاّ أنّ التزامه بهذا المعنى يوجب بطلان قوله بأنّ الاختلاف بين الشرعوالعرف لا يرجع إلى الاختلاف في المعنى، بل الاختلاف في المحقّقاتوالمصاديق؛ لأنّ الشارع إذا قال: «البيع هو العقد الذي إذا وجد في الخارجكان صحيحاً» فلا يشمل هذا العنوان البيع الربوي رأساً؛ إذ المراد من الصحيحهو الصحيح عند الشارع.
وأمّا العرف فإذا قال كذلك فإنّه يشمل البيع الربوي، فإنّ الصحيح فيعنوانه عبارة عن الصحيح عنده، فيرجع الاختلاف بينهما في المعنى. هذا تمامكلامه دام ظلّه.
(صفحه326)
ولكنّه لا يخلو من إشكال، فإنّ المحقّق الخراساني قدسسره لم يقل بدخالة مفهومالصحيح بالحمل الأوّلي في معنى البيع؛ إذ لو قال: بأنّ البيع هو العقد الصحيحوالإجارة هو العقد الصحيح والنكاح هو العقد الصحيح، فما الفرق بين البيعوالإجارة والنكاح؟ بل يمكن أن يقال: إنّ لعنوان الصحيح ـ كعنوان الجنس أنواعاً متعدّدة، منها البيع الصحيح بمعنى العقد المؤثّر في ملكيّة العين، ومنها:الإجارة الصحيحة وهو العقد المؤثّر في ملكيّة المنفعة، ومنها: النكاح الصحيحوهو العقد المؤثّر في الزوجيّة، وجميعها عناوين كلّيّة من حيث الوضعوالموضوع، ولا شكّ في انتقال الذهن من استماع كلمة البيع أو الإجارة أوالنكاح إلى العقد المؤثّر في ملكيّة العين أو في ملكيّة المنفعة أو في الزوجيّة.
وبالنتيجة يندفع بهذا البيان الإشكالان؛ لأنّ هذا العنوان: أوّلاً: عامّ منحيث الوضع والموضوع له، مع أنّه لا ينطبق إلاّ على العقود الصحيحة. وثانياً:يوجب اندفاع إشكال الاختلاف بين الشرع والعرف، بأنّ الاختلاف بينهميكون في المصاديق لا في أصل المعنى؛ إذ الشارع والعقلاء متّفقان على أنّ البيعهو العقد المؤثّر في ملكيّة العين، ولكنّ الاختلاف كان في تطبيق هذا العنوانعلى المصاديق كالبيع الربوي ـ مثلاً ـ فإنّ الشارع قائلٌ بعدم تأثيره في ملكيّةالعين، وأمّا العقلاء فقائلون بتأثيره فيها. وقد ظهر إلى هنا أنّ صاحب الكفايةقائل في ألفاظ المعاملات ـ كالعبادات ـ بأنّها وضعت لخصوص الصحيحةوإطلاقها في الفاسدة يكون على نحو المجاز.
ولكنّ التحقيق في المسألة: أنّ ألفاظ المعاملات: أوّلاً: لم توضع للأسباب،بل الموضوع له فيها هي المسبّبات، فإنّ المتبادر من لفظ البيع أنّه أمرليس من مقولة اللفظ، بل هو أمر من مقولة المعنى كتبادر الماهيّة، والمعنى
(صفحه 327)
من لفظ الإنسان.
ويؤيّده قول اللغوي على ما نقله الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره في بيعالمكاسب عن المصباح بأنّ: «البيع مبادلة مال بمال»(1)، ومعلوم أنّ المبادلةتكون من الاُمور المعنوية وإن كان سببها من الألفاظ.
وعبارة اُخرى لهذا التعبير: أنّ البيع هو التمليك والتملّك أو النقل والانتقال،وجميعها تكون من مقولة المعنى، فيظهر من عدم تبادر الإيجاب والقبول منلفظ البيع وعدم قول أهل اللّغة بأنّه لفظٌ أو عقدٌ، فإنّ ألفاظ المعاملات وضعتللمسبّبات، فلا محلّ للنزاع بين الصحيحي والأعمي رأساً، كما مرّ تفصيلالكلام في هذا المقام.
وثانياً: لو تنزّلنا عن هذه المرتبة وفرضنا أنّها وضعت للأسباب فلا محيصمن القول بالأعمّ كما قلنا في ألفاظ العبادات؛ لأنّ الأدلّة المذكورة في ذاك البابتجري ههنا أيضاً، ومنها: أنّ الوضع من المسائل العقلائيّة، والغرض منه التفهيموالتفهّم بسهولة، وأنّ الموضوع له إذا كان مركّباً ذا أجزاء وشرائط فيكون منخصوصيّاته أنّ حاجة الاستعمال إلى فاقد بعض الأجزاء والشرائط تكونأوفر وأكثر من حاجة الاستعمال إلى واجد جميع الأجزاء والشرائط، فحكمةالوضع تقتضي أن يكون الموضوع له هو الأعمّ من الفاقد والواجد، كما يؤيّدهوضع المخترعين إذا اخترعوا شيئاً كالسيّارة والطيّارة.
وهكذا في باب المعاملات إذا كان الموضوع له لعنوان البيع ـ مثلاً ـ السببالمركّب من الأجزاء والشرائط فحكمة الوضع تقتضي أن يكون استعماله فيالواجد والفاقد بنحو الحقيقة.
- (1) المكاسب: 79 (حجريّة).
(صفحه328)
إلاّ أنّه يمكن أن يقال: بأنّ المقرّ إذا أقرّ في محضر الحاكم بأنّه باع داره لزيدفلا شكّ في أنّ الحاكم يحكم بردّ الدار إلى المشتري من دون استيضاحه فيكون البيع فاسداً أم صحيحاً، وهذا دليل على أنّ البيع وضع للصحيح فقط،وهكذا في سائر ألفاظ المعاملات.
وأمّا جوابه فيحتاج إلى مقدّمة، وهي: أنّ معنى الوضع للأعمّ ليس استعماللفظ البيع ـ مثلاً ـ في كلّ الموارد في معنى الأعمّ وإرادته، بل يمكن استعماله فيهوإرادة خصوص البيع الصحيح أو الفاسد، فإنّ استعماله في خصوص الصحيحأو الفاسد يستلزم المجازيّة، فلابدّ من الاستعمال في الأعمّ وإقامة القرينة علىإرادة خصوص الصحيح أو الفاسد، فيكون الاستعمال في الأعمّ على ثلاثةأنحاء من الإرادة؛ لأنّه قد يستعمل فيه ويراد المعنى الأعمّ، وقد يستعمل فيهويراد به خصوص معنى الصحيح بقرينة معيّنة، وقد يستعمل فيه ويراد بهخصوص معنى الفاسد بقرينة معيّنة.
إذا عرفت هذا فنقول: إنّ المقرّ في مقام الإقرار إذا قال: «بعت داري» فقداستعمل لفظ البيع في المعنى الأعمّ، لكنّه في البين قرينة على انطباق هذا المعنىالأعمّ في خصوص الصحيح، وهي عدم لغويّة الإقرار في محضر الحاكم، وكونهأمراً منشئاً للأثر، فنفس عدم لغويّة الإقرار يكون قرينةً على انطباق معنىالأعمّ على خصوص الصحيح، فتكون عناوين المعاملات كالعباداتموضوعة للمعنى الأعمّ.
(صفحه 329)