(صفحه 333)
وهكذا في باب المعاملات، مع أنّ في خصوص البيع الربوي خصوصيّة لتتحقّق في موارد اُخر، وهي أنّ التعبير بالإطلاق والتقييد فيما إذا كان القيدمتّصلاً لا يخلو عن مسامحة وعناية؛ إذ لا إطلاق في البين، بل الحكم كان مقيّدمن الابتداء، فالإطلاق والتقييد يتحقّقان فيما إذا كان القيد منفصلاً، وأمّا فيالآية الشريفة فقد ذكرت جملة: «حَرَّمَ الرِّبَواْ» عقيب جملة «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ»وكأنّما قال سبحانه: «الربا ليس ببيع» من الابتداء، ويستفاد من مجموعالجملتين أنّه: أحلّ اللّه البيع الغير الربوي، أو أنّ الربا غير مشروع؛ لأنّه ليسببيع كما يفهمه العرف من مقابلة البيع والربا في الآية، فالجملة الثانية تشبهالاُولى بدليل الحاكم، فكأنّ الاُولى تقول: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ». والثانية تقول:«البيع الربوي ليس ببيع عند الشارع».
المسألة الثانية: أنّه قد مرّ أنّ نزاع الصحيحي والأعمّي في ألفاظ المعاملاتلا يجري إلاّ إذا كانت موضوعة للأسباب دون المسبّبات، وأمّا إن قلنا:بوضعها للمسبّبات ـ كما اختاره شيخنا الأعظم الأنصاري قدسسره (1) والظاهر أنّالحقّ معه ـ فمعنى الآية أنّ اللّه تعالى قد أمضى الملكيّة في مورد البيع، وحينئذٍإن شككنا في أنّه إذا كان صيغة البيع بالفارسيّة هل تؤثّر هذه الصيغة في تحقّقالملكيّة أم لا؟ فمع أنّ الشكّ في محدودة الأسباب وإطلاق الآية في محدودةالمسبّبات فكيف يكون هذا الإطلاق قابلاً للاستناد والتمسّك؟!
أشكل بعض بأنّ بعد ملاحظة الأسباب والمسبّبات يستفاد أنّ المسبّب قدلا يكون له إلاّ سبب واحد، وقد يكون له أسباب متعدّدة، لكن الأسباب قدتكون كلّها في رديف واحد من حيث التأثير في المسبّب وعدمه. وقد يكون
(صفحه334)
بعضها متيقّن التأثير وبعضها مشكوك التأثير، فإن كان السبب والمسبّب منقبيل القسم الأوّل فلا شكّ في أنّ إمضاء المسبّب بقوله: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ»يستلزم إمضاء السبب أيضاً، وكذلك في القسم الثاني، فإنّ إمضاء المسبّبيستلزم إمضاء جميع الأسباب؛ لأنّها في رديف واحد، إلاّ أنّ هذين القسمينقلّما يتحقّقان، وأمّا إذا كان من قبيل القسم الثالث وشكّ في شرطيّة العربيّة فيعقد البيع ـ مثلاً ـ ونعلم أنّ إجراءه باللغة العربيّة موثّرة في السببيّة ونشكّ فيتأثير اللّغة الفارسيّة فيها، فلا محلّ للتمسك بإطلاق «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» لنفيشرطيّة العربيّة، وهذا إشكال مهمّ ويترتّب عليه في الفقه ثمرات متعدّدة، وهذالقسم محلّ ابتلاء وشائع بين الناس، فكيف يندفع الإشكال هنا؟
وقال المحقّق النائيني قدسسره (1) في مقام جوابه: إنّ نسبة صيغ العقود إلىالمعاملات ليست نسبة الأسباب إلى مسبّباتها حتّى يكونا موجودينخارجيّين يترتّب أحدهما على الآخر ترتّباً قهريّاً، بل نسبتها إليها نسبة الآلةإلى ذيها؛ بداهة أنّ قول: «بعت» أو «أنكحت» ليس بنفسه موجداً للملكيّة أوالزوجيّة في الخارج نظير الإلقاء الموجود للإحراق، فإذا لم يكن من قبيلالأسباب والمسبّبات فليس هناك موجودان خارجيّان حتّى لا يكون إمضاءأحدهما إمضاء للآخر، بل كان كلّ واحد منهما موجوداً بوجود واحد، وحينئذٍلا فرق بين أن يكون إطلاق «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» ناظراً و شاملاً للآلة أو ذيها،فيكون إمضاء أحدهما ملازماً لإمضاء الآخر، فيتمسّك بالإطلاق في صورةالشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّة شيء ونفيها به.
ولكنّ الجواب مخدوش من جهتين:
- (1) فوائد الاُصول 1: 81 ـ 82 .
(صفحه 335)
الاُولى: أنّ القائل بالسببيّة لا يقول: بأنّ السبب عبارة عن نفس كلمة«بعت» و«اشتريت» ولو كان القائل في حال النوم أو في مقام الإخبار، بلالسبب عنده عبارة عن قولهما في مقام الإنشاء مع قصد التمليك والتملّك، فنسبةهذا التوهّم إليه بعيد من المحقّق النائيني قدسسره .
الثانية: أنّا لا نعلم أنّ مقصوده من اتّحاد الآلة وذيها ما هو؟ فكيف يعقلالاتّحاد الوجودي بين السكّين والقتل أو القلم والكتابة مع أنّ الاُولى تكونمن مقولة الجوهر والثانية من مقولة الفعل؟! مع أنّ في باب المعاملات شاهدأقوى على أنّ بين الآلة وذيها يتحقّق كمال المغايرة، وهو أنّ الآلة عبارة عناللفظ ولها واقعيّة غير قابلة للإنكار، وأمّا ذوها فعبارة عن الملكيّة وأمثالذلك، وهي من الاُمور الاعتباريّة، ولا يعقل الاتّحاد بينهما أصلاً.
ولو سلّمنا أنّ نسبة صيغ العقود إلى المعاملات نسبة الآلة إلى ذيها فلمناص عن تعدّد الوجود، وإذا كان الأمر كذلك فيعود الإشكال ههنا أيضاً؛لأنّه يدور مدار تعدّد الوجود، فإذا كانت الآلة وذوها متعدّدة والآية الشريفةناظرة إلى ذيها فهو دليل على عدم إمضاء المعاطاة والبيع بالفارسيّة وأمثالذلك من الأسباب أو الآلات المشكوكة، إلاّ في صورة وحدة السبب أو تعدّدهوكونها في رديف واحد من حيث التأثّر وعدمه.
وأمّا التحقيق في الجواب فيحتاج إلى مقدّمتين: إحداهما: أنّ المسبّبات التيوضعت الألفاظ والعناوين لها عبارة عن المسبّبات العرفيّة لا الشرعيّة، ولكنّالشكّ في السببيّة الشرعيّة بعد إحراز السببيّة العرفيّة، فإنّا نعلم أنّ المعاطاةوالبيع بالفارسيّة وأمثال ذلك لها سببّية عند العرف، ونشكّ في إمضاء الشارعلسببيّتها وعدمه.
(صفحه336)
والثانية: أنّ المسبّب ـ كالملكيّة ـ وإن كان من الاُمور الاعتباريّة إلاّ أنّهتتعدّد باختلاف طرف إضافتها، فإنّ ملكية «زيد» للكتاب غير ملكيّة«عمرو» له، وإذا صار ملكاً له فهذه ملكيّة اُخرى لا نفس تلك الملكيّة،وهكذا ملكيّة «زيد» لكتابه غير ملكيّته لداره، فللملكيّة مصاديق متعدّدة، إلأنّ جميعها مشتركة في الملكيّة الاعتباريّة كاشتراك أفراد الإنسان في الماهيّةالنوعيّة ـ أي الإنسانيّة.
وإذا عرفت ذلك فنقول: إنّ الأسباب المتعدّدة التي يكون بعضها متيقّنالسببيّة وبعضها مشكوك السببيّة ليس لها مسبّب واحد حتّى لا يكون إمضاءالمسبّب ملازماً لإمضاء الأسباب المشكوكة، بل كان لكلّ سبب مسبّبخاصّ، فإذا باع أحد كتابه ببيع المعاطاة أو العقد بالفارسيّة فلا شكّ في تحقّقالسبب العرفي وشمول إطلاق «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» له، ولا معنى لإمضاء الملكيّةالحاصلة عقيب المعاطاة والبيع بالفارسيّة، بدون إمضاء هذين السببين، فلمحالة إمضاء المسبّب يستلزم إمضاء السبب أيضاً.
وبعبارة اُخرى: أنّ المراد من وحدة المسبّب ما هو؟ فإن كان المراد الوحدةالشخصيّة الخارجيّة فهو خلاف الواقع، فإنّ لكلّ بيع مسبّباً خاصّاً، ويدلّعليه تغيير الملكيّة بتغيير طرف إضافتها. وإن كان المراد منها الوحدة النوعيّةوالسنخيّة وله مصاديق متعدّدة ـ وإطلاق الآية الشريفة يشمل جميعها فإمضاء المسبّب بالإطلاق إمضاء للسبب العرفي، ولو كان مشكوكاً من حيثالشرع فلا يعقل صحّة الملكيّة الواقعة عقيب المعاطاة بدون المعاطاة، ولا يكادينفكّ إمضاء المسبّب عن السبب، فيتمسّك في موارد الشكّ بالإطلاق، وينفي بهمشكوك الشرطيّة أو الجزئيّة.
(صفحه 337)