(صفحه338)
في الاشتراك اللفظي
الأمر الحادي عشر
في الاشتراك اللفظي
فقد وقع الخلاف في أنّ الاشتراك ضروري الوجود أو ضروري العدم؛لامتناع وقوعه خارجاً، أو سلب الضرورة من وجوده وعدمه وإمكانوقوعه خارجاً.
واستدلّ القائل بوجوب الاشتراك في اللّغات بأنّ الألفاظ متناهية؛ لتركّبهمن الحروف الهجائيّة المتناهية والتراكب المؤلّفة منها أيضاً متناهية قطعاً،بخلاف المعاني الموجودة في الواقع ونفس الأمر، فإنّها غير متناهية، فلابدّ منالاشتراك في الألفاظ حتّى تكون الألفاظ وافية بالمعاني، ولا يبقى معنى بلا لفظدالّ عليه، إلاّ أنّه لا يكون بمعنى الاشتراك في جميع الألفاظ، بل بمعنى وقوعهولو كان بوضع لفظ واحد لمعاني متعدّدة وعدمه في لفظ آخر أصلاً.
وأجاب عنه صاحب الكفاية قدسسره (1) بوجوه: أحدها: أنّ اشتراك الألفاظ فيالمعاني غير المتناهية يستدعي أوضاعاً غير متناهية، فإنّ تعدّد الوضع تابعلتعدّد المعنى، ويحتاج كلّ معنى من المعاني إلى وضع مختصّ به، وحيث إنّ
(صفحه 339)
المعاني غير متناهية فلابدّ من الأوضاع الغير المتناهية، وصدورها من واضعمتناه محال.
وثانيها: أنّه لو سُلّم إمكان الاشتراك حينئذٍ بدعوى أنّ الواضع هو اللّهتعالى إلاّ أنّه من البديهي أنّ الوضع مقدّمة للاستعمال ولإبراز الحاجةوالأغراض، وهو من البشر لا منه تعالى، فحينئذٍ وضع الألفاظ بإزاء المعانيالغير المتناهية يكون لغواً محضاً، ولا يترتّب عليه الأثر، فلا يصدر عن الواضعالحكيم، فإنّه زائد على مقدار الحاجة إلى الاستعمال.
وثالثها: أنّ المعاني الجزئيّة وإن كانت غير متناهية لكنّها لا تقتضيالأوضاع الغير المتناهية؛ لإغناء الوضع للمعاني الكلّيّة المتناهية عن الوضعللمعاني الجزئيّة الغير المتناهية، كما أنّ الأمر كذلك في جميع أسماء الأجناس،فإنّ لفظ الأسد ـ مثلاً ـ موضوع لطبيعي ذلك الحيوان الخاصّ ثمّ نستعمله فيكلّ فرد من أفرادها من دون أن تكون لأفرادها أسماء خاصّة فلا داعي إلىوجوب الاشتراك.
ورابعها: أنّ باب التفهيم والتفهّم ليس منحصراً بالاستعمال الحقيقي، بليمكن إفهام المعاني بالاستعمال المجازي، فإنّ باب المجاز واسع، ولا مانع من أنيكون الاستعمال لمعنى واحد حقيقيّاً ولمعان متعدّدة مجازيّة، فلا موجبلوجوب الاشتراك في الألفاظ. هذا تمام كلامه في مقام الجواب عن القولبوجوب الاشتراك.
ويضاف إليه ما ينسبق إلى الذهن من أنّه لا مانع من وضع لفظ مخصوصلمعنى غير متناهي، مثل: وضع لفظ «اللّه» لذات واجب الوجود.
ولا يخفى أنّ ما أفاده قدسسره في الجواب الأوّل من احتياج كلّ معنى من المعاني
(صفحه340)
إلى وضع على حدة منافٍ لما مرّ منه قدسسره في باب الوضع؛ لأنّ من أقسام الوضعالمذكورة فيه هو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، ومعناه ملاحظة معنى كلّيووضع اللفظ لمصاديقه، ومعلوم أنّ بين المصاديق تحقّق التباين، فيمكن أنيكون للفظ واحد ألف ألف معنى، مع أنّه يتحقّق بوضع واحد، فيتحقّقالاشتراك اللفظي بدون الاحتياج إلى أوضاع متعدّدة، ولا معنى لهذا القسم منالوضع سوى الاشتراك اللفظي، فالقائل بهذا القسم من الوضع كيف ينكروحدة الوضع في باب الاشتراك؟! فلابدّ لمن قال بإمكان تصويره ـ كالمحقّقالخراساني قدسسره ـ من وحدة الوضع في باب الاشتراك، وذكرنا فيما تقدّم أنّ هذالقسم من الوضع لا إمكان له لا وقوعاً ولا تصوّراً. فهذا مناقشة في كلامه قدسسره مع أنّ أصل ما أفاده قدسسره في كمال المتانة والتماميّة.
واستدل القائل بالاستحالة بوجوه:
منها: أنّ الاشتراك ينافي حكمة الوضع وهي التفهيم والتفهّم بسهولة، فإنّإبراز المقاصد لا يمكن في جميع الموارد إلاّ باللفظ، وأمّا غيره ـ كالإشارةونحوها ـ فلا يفي بذلك في المحسوسات فضلاً عن المعقولات ـ فنحتاج إلىالوضع لسهولة التفهّم والتفهيم، وحيث إنّ الاشتراك مخلٌّ بذلك؛ لأنّ نسبةاللفظ إلى كلّ من المعنيين أو المعاني على حدٍّ سواء، وخفاء قرائن المراد نوعفتبطل حكمة الوضع، فصدوره عن الواضع الحكيم محال.
وأجاب عنه صاحب الكفاية قدسسره بوجهين: الأوّل: أنّ إمكان الاتّكال فيتفهيم المعنى الذي أراده على القرائن الواضحة الدالّة من الواضحات، فإنّاللفظ المشترك وإن لم يدلّ على المقصود بنفسه ولكنّه يدلّ عليه بواسطة ضمّقرينة إليه، فلا يلزم منافاة لحكمة الوضع.
(صفحه 341)
الثاني: أنّا نمنع كون الاشتراك يوجب الإخلال بغرض الوضع، فإنّ الغرضكما يتعلّق بالتفهيم والتفهّم كذلك قد يتعلّق بالإهمال والإجمال وعدم نصبدلالة على المراد.
والحاصل: أنّ هذا التعليل أخصّ من المدّعى؛ لاختصاصه بصورة خفاءالقرائن، فلا يصلح لأن يكون دليلاً على منع الاشتراك مطلقاً ولو فيما إذا كانتقرائن المراد جليّة ودلالتها على المقصود واضحة.
ومنها: أنّ الاشتراك ينافي حقيقة الوضع؛ لأنّ الوضع عبارة عن جعلاللفظ مرآةً وفانياً في المعنى، بحيث إنّا ننتقل من استعمال اللفظ إلى المعنى بلتحيّر وتردّد، ومعلوم أنّ هذا المعنى لا يناسب الاشتراك.
وجوابه: أنّه قد خلط المستدلّ بين مقام الوضع والاستعمال؛ إذ لا شكّ فيأنّ الواضع يلاحظ اللفظ مستقلاًّ كالمعنى ثمّ يجعله علامة للمعنى، وقد مرّ مرارأنّ الوضع مثل تسمية الأب لمولوده من جهة استقلال اللفظ والمعنى معاً.
نعم، بعد تحقّق الوضع وإيصال النوبة إلى مقام الاستعمال يتعلّق غرضالمستعملين بإلقاء وتلقّي المعنى فقط، ويكون التفاتهم إلى اللفظ التفات مرآتي،بل اللفظ يكون فانياً في المعنى بحدّ كأنّه لم يُسمع أصلاً. فهذا الدليل ليس بتامّ.
ومن الوجوه التي استدلّ بها القائل باستحالة الاشتراك: أنّ حقيقة الوضععبارة عن جعل الملازمة الذهنيّة بين اللفظ والمعنى؛ بحيث أنّ اللفظ لا يكادينفكّ عن المعنى، والمعنى لا يكاد ينفكّ عن اللفظ، فعليه يلزم من الوضعللمعنيين أن يحصل عند تصور اللفظ الانتقالان المستقلاّن دفعة واحدة،وسيأتي أنّ هذا المعنى مستحيلٌ عند عدّة من المحقّقين، فكيف يعقل الملازمةبين اللفظ والمعنى الأوّل والثاني وعدم انفكاكهما عنه؟!
(صفحه342)
وجوابه: أنّ هذا المبنى مخدوش من أساسه؛ إذ الوضع لا يكون عبارة عنجعل الملازمة بين اللفظ والمعنى، فإنّهما من المتباينين، ولا يمكن جعل الملازمةالتكوينيّة بينهما للواضع، ولا معنى لجعل الملازمة الاعتباريّة، مضافاً إلى أنّالواضع في مقام الوضع يقيم الوضع مقام الإشارة اللفظيّة حتّى يعرف المشارإليه في حال الحياة والموت، والحضور والغياب باللفظ الموضوع، فامتناعالاشتراك كضرورة وجوده ليس بتامّ، بل هو أمر ممكن تحقّقه في الخارج، بلنرى تحقّقه بين المعنيين المتضادّين، مثل: لفظ «القرء» بمعنى الطهر والحيض،وأمثال ذلك.
ولكنّه يمكن أن يقال: إنّه لا نحتاج إلى الاشتراك، مع أنّ الألفاظ كانتوافية للمعاني، فلا موجب له، فما الدليل لتحقّقه؟
ذكروا ههنا وجهين:
الأوّل منهما ينتج من ضمّ مقدّمتين:
إحداهما: أنّ الاشتراك في لغة لا يستلزم الاشتراك في كلّ لغة، فإنّا نرى أنّلكلّ قبيلة أو بلد اصطلاحات خاصّة مع اشتراكهم في أصل اللغة، مثلاً: يُرادمن لفظ «العين» في بلد من البلاد العربية العين الباكية، وفي بلد آخر منها العينالجارية، فالاصطلاحات متغايرة بحسب البلاد في زماننا هذا، وبحسب القبائلفي الأزمنة السابقة؛ لأنّ الواضع لايكون ذات الواجب ولا شخصاً معيّنخاصّاً، بل لكلّ قبيلة وضع خاصّ واصطلاح مخصوص.
وثانيتهما: أنّ ديدن المحقّقين من اللّغويين كان استفادة اللّغات من ألسنةالأقوام والقبائل، فإذا رأى اللّغوي أنّ في قبيلة يراد من لفظ العين ـ مثلاً العين الباكية وقبيلة اُخرى يراد منها العين الجارية فلابدّ له حين الكتابة