(صفحه346)
في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد
الأمر الثاني عشر
استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد
لابدّ لنا قبل تحقيق المسألة من ذكر مقدّمتين حتّى يعلم محلّ النزاع:
إحداهما: أنّ عنوان المسألة في كتب القدماء حتّى إلى زمان صاحبالمعالم قدسسره (1) وصاحب القوانين قدسسره (2) يدور مدار الجواز وعدمه، إلاّ أنّ المتأخّرينكالمحقّق الخراساني قدسسره (3) بدّل العنوان بالإمكان والاستحالة، فعلى هذا يقعالبحث في مرحلتين: المرحلة الاُولى: في الإمكان وعدمه، وإن قلنا بإمكانه فيهذه المرحلة فتصل النوبة إلى المرحلة الثانية، وهي أنّ هذا الأمر الممكن هليكون مورداً لترخيص الواضع أم لا؟
والثانية: أنّ محلّ النزاع هو في ما إذا استعمل لفظ واحد في معنيينمستقلّين؛ بحيث يكون الإطلاق الواحد في حكم الإطلاقين، والاستعمالالواحد في حكم الاستعمالين، ويكون كلّ واحد من المعنيين مراداً علىالاستقلال.
(صفحه 347)
ومن هنا يظهر أنّ استعمال اللفظ الواحد في مجموع المعنيين بما هو كذلك، أوفي قدر جامع بينهما أو في أحدهما على سبيل البدليّة، أو في أحدهما أصالة وفيالاُخرى تبعاً، خارج عن محلّ النزاع، فمحلّ النزاع فيما إذا كان كلّ واحد منالمعنيين مراداً من اللفظ على سبيل الاستقلال والانفراد.
وأمّا في المرحلة الاُولى فقال المحقّق الخراساني قدسسره (1) باستحالته، وقال فيمقام الاستدلال: إنّ حقيقة الاستعمال ليس جعل اللفظ علامة لإرادة المعنىحتّى يقال: إنّه لا إشكال في جعل اللفظ علامة للمعنيين، بل هي عبارة عنجعل اللفظ فانياً في المعنى وعنواناً له، بل بوجه نفسه كأنّه الملقى، ولذا يسريإلى اللفظ حسن المعنى وقُبحه، فلحاظ اللفظ وجهاً للمعنى وفانياً فيه ينافيلحاظه وجهاً لمعنى آخر مع فرض وحدة اللحاظ، حيث إنّ لحاظه كذلك ليكاد يكون إلاّ بتبع لحاظ المعنى فانياً فيه فناء الوجه في ذي الوجه والعنوانفي المعنون، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد معاستلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال؟! فلا يمكن جعل لفظواحد في آن واحد فانياً في اثنين ووجوداً ووجهاً لهما معاً، إلاّ أن يكوناللاحظ أحول العينين.
ولا يخفى أنّ في هذه العبارة ثلاث احتمالات:
الأوّل: أن يكون مدار كلامه قدسسره في الاستعمال بأنّ ماهيّة الاستعمال فناءاللفظ في المعنى، وبعد فنائه في المعنى الأوّل فليس له وجود سوى وجود هذالمعنى حتّى يفنى في المعنى الثاني، فإن كان مراده هذا الاحتمال ففيه:
أوّلاً: أنّ ماهيّة الاستعمال ليست فناء اللفظ في المعنى وإن كان له عنوان
(صفحه348)
تبعي بالنسبة إلى المعنى، وإلاّ يلزم عدم دخالة اللفظ من حيث حسنه وقبحهفي إلقاء المعنى، مع أنّ الخطيب يسعى في استخدام ألفاظ حسنة لإلقاء مطالبه،فكيف يعقل فناء اللفظ في المعنى مع أنّهما من المقولتين المتباينتين؟!
وثانياً: لو سلّمنا أنّ ماهيّة الاستعمال هي فناء اللفظ في المعنى إلاّ أنّ كلالمعنيين لمّا كانا في عرض واحد فلا مانع من فنائه فيهما؛ إذ لا يكون ههنا أوّليّةوثانويّة، بل كلاهما في عرض واحد.
الاحتمال الثاني: أنّ المعنى حين الاستعمال يتعلّق به اللحاظ الاستقلالي،وإذا كان المعنى متعدّداً فاللحاظ الاستقلالي الذي يتعلّق بها أيضاً كان متعدّداً،وأمّا لحاظ اللفظ فيكون تابعاً للحاظ المعنى، فإذا استعمل في شيئين يكونتابعاً لهما في اللحاظ، فيجتمع فيه اللحاظان الآليّان بالتبع، وهو كما ترى.
ويحتمل قويّاً أن يكون مراده قدسسره هذا الاحتمال، ولعلّه كانت جملة «إلاّ أنيكون اللاحظ أحول العينين» ناظرة إلى هذا المعنى، وهذا هو الأقرب إلىكلامه قدسسره .
وإن كان مراده هذا الاحتمال فيجاب بأنّ اللفظ والمعنى قد يلاحظان بنظرالمتكلّم، وقد يلاحظان بنظر السامع.
توضيحه: أنّ المولى قبل صدور الأمر منه يلاحظ المعنى ويتوجّه إليه،ولكن يتوجّه إلى اللفظ حين صدور الأمر وتفهيم مراده العبد، فيلاحظه تبعللمعنى ويقول: «جئني بماء» إلاّ أنّه لا دليل لأن يكون اللحاظ التبعي متعدّداً،بل يلاحظه تبعاً بلحاظ واحد، فيلاحظ المعنيين ثمّ يلقي كليهما بلفظ واحد،فإذا كان الملحوظ بلحاظ استقلالي متعدّداً فلا يستلزم أن يكون الملحوظباللحاظ التبعي أيضاً متعدّداً.
(صفحه 349)
وأمّا السامع والمخاطب فينتقل من اللفظ إلى المعنى فينعكس الأمر؛ إذيكون لحاظ المعنى تبعاً للحاظ اللفظ وسماعه، فإذا كان اللفظ دالاًّ على المعنيينانتقل منه إليهما من غير لزوم استحالة أبداً، فلا يلزم من تبعيّة اللحاظ جمعاللحاظين في اللفظ، كما لا يخفى.
الاحتمال الثالث: أنّ كلامه قدسسره يدور مدار أصل اللحاظ مع حذف عنوانالاستقلال والتبع عنه؛ بأنّ معيار تعدّد اللحاظ في اللفظ هو تعدّده في المعنى،فإذا كان اللحاظ في جانب المعنى متعدّداً فلابدّ من تعدّده في جانب اللفظأيضاً.
وجوابه: أنّ هذا ليس بتامّ؛ لأنّه إذا قال المتكلّم: «رأيت عيناً» وأراد منهالعين الباكية، ثمّ قال بعد ساعة أيضاً: «رأيت عيناً» وأراد منها هذا المعنى،فلاشكّ في تعدّد اللحاظ ووحدة المعنى، فكيف كان اللحاظ متعدّداً مع أنّالمعنى واحد؟! فلابدّ من تغيير المعيار؛ بأنّ تعدّد اللحاظ في جانب اللفظ تابعلتعدّد الاستعمال، فإذا كان الاستعمال واحداً يكفي فيه اللحاظ الواحد وإن كانالمعنى متعدّداً، وإذا كان الاستعمال متعدّداً فلابدّ من تعدّد اللحاظ. ولا يصح مأفاده قدسسره في مقام الاستدلال للقول بالاستحالة، فتدبّر.
فإن قيل: إنّه لا مانع من تعلّق اللحاظين بلفظ واحد مع أنّه واحد.
قلنا: إنّ هذا المعنى ليس بصحيح؛ إذ اللحاظ عبارة عن تصوّر الشيءوحضوره عند النفس والتفات الذهن إليه، ومن المعلوم أنّه لا يمكن إحضارهفي النفس مرّتين بدون تعدّد الزمان، كما أنّه لا يمكن إتيان علمين في آن واحدبشيء واحد للإنسان.
وقد استدلّ المحقّق النائيني قدسسره (1) على الاستحالة بأنّ حقيقة الاستعمال ليست
- (1) أجود التقريرات 1: 51.
(صفحه350)
إلاّ عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ وإلقاءه إلى المخاطب خارجاً، ولذا لايرىالمخاطب إلاّ المعنى، فإنّه الملحوظ أوّلاً وبالذات، واللفظ ملحوظ بتبعه وفانفيه، فلازم استعمال اللفظ في المعنيين على نحو الاستقلال تعلّق اللحاظالاستقلالي بكلّ واحد منهما في آن واحد كما لو لم يستعمل اللفظ إلاّ فيه. ومنالواضح أنّ النفس لا تستطيع أن تجمع بين اللحاظين المستقلّين في آن واحد،فلا شكّ في أنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد يستلزم ذلك، والمستلزمللمحال محال.
وجوابه: أنّ النفس بما أنّها جوهر بسيط ولها صفحة واسعة تقدر أن تجمعبين اللحاظين المستقلّين في صفحتها في آن واحد.
ويدلُّ على ذلك اُمور:
الأوّل: أنّا إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدنا أنّها تقدر على تصوّر اُمور متضادّةأو متماثلة بتصوّرات مستقلّة في آن واحد، فإنّ إسناد الرؤية ـ مثلاً ـ إلى العينأو النفس إسناد حقيقي، ومعلوم أنّ النفس بما لها من السعة تقدر على رؤيةعدّة أشخاص في آن واحد بلا تقدّم وتأخّر، فالرؤية مع كونها عملاً للنفستستلزم أن يكون المرئي متعدّداً، فلا يكون اجتماع اللحاظين فيها ممتنعاً أصلاً.
الثاني: أنّ استفادة النفس في آن واحد من قوّة السامعة والباصرةواللامسة لا تكون قابلة للإنكار، فكيف تقدر النفس في آن واحد على لحاظالمسموع والملموس وأمثال ذلك؟! فيكشف أنّ للنفس سعة خاصّة تقدر بهبما لا يمكن صدوره عن المادّي.
الثالث: أنّ في القضايا الحمليّة التي ملاكها الاتّحاد والهوهويّة وإن كانالموضوع متقدّماً والمحمول متأخّراً من حيث اللفظ، إلاّ أنّ حمل الشيء والحكم