(صفحه 35)
المقدّمات اليقينيّة، والمقدّمة اليقينيّة يجب أن تكون ضروريّة في الصدق وإنكانت ممكنة بحسب الجهة، مثل: الإنسان موجود بالفعل، مع أنّ نسبة الوجودإلى الإنسان نسبة إمكانيّة؛ إذ الوجود ليس ضروريّاً له، ولكنّه ضروريالصدق في الخارج. ويجب أيضاً أن تكون المقدّمة اليقينيّة دائمة في الصدقبحسب الأزمان، وأن تكون كلّيّة في الصدق بحسب الأحوال، وأن يكونالحمل ذاتيّاً للموضوع بحيث يوضع المحمول بوضع الموضوع ويرفع برفعه معقطع النظر عمّا عداه، وإذا لم يكن كذلك لايحصل اليقين، ولا ينتج نتيجة يقينيّة،والظاهر منه أنّه اختصّ بالصورة التي لم تكن واسطة في البين أصلاً.
وفيه: أنّه لا دليل لانحصار العرض الذاتي بهذه الصورة، فإنّا لا نرتاب فيحصول نتيجة يقينيّة ولو كانت الواسطة داخليّة أعمّ، فضلاً من أن تكونالواسطة داخليّة أو خارجيّة مساوية للمعروض.
ولا يخفى أنّ نسبة موضوع العلم إلى موضوع مسائله لا تكون دائماً نسبةالجنس والنوع، بل قد يكون موضوع العلم أخصّ من موضوعات مسائله.والعمدة في المسألة أنّه قد تكون موضوعات المسائل أعمّ من موضوع العلم،مثل أكثر مسائل علم الاُصول فإنّ موضوعه الأدلّة الأربعة مع وصفالدليليّة، أو مع قطع النظر عن دليليّتها، أو كان موضوعه الحجّة في الفقه، كمسيأتي بيانه.
وإنك تقول في باب الأوامر: إنّ صيغة الأمر هل تدلُّ على الوجوب أم لا؟ومعلوم أنّ المراد من صيغة الأمر أعمّ من أن تكون في الكتاب أو السنّة، فإنّنتمسّك بدلالتها على الوجوب في اللغة وببناء العقلاء وأنّها تدلّ عليه ولو لميكن الكتاب والسنّة. وهكذا في صيغة النهي.
(صفحه36)
فهذه المسائل مع كونها من أهمّ مسائل علم الاُصول يكون موضوعها أعمّمن موضوع العلم، فإنّا بعد ثبوت دلالة صيغة الأمر على الوجوب نقول: إنّأوامر الكتاب والسنّة تدلّ على الوجوب بهذا الملاك.
والأهمّ منها المباحث العقليّة، مثل البحث في مقدّمة الواجب، من أنّوجوب المقدّمة ملازمة لوجوب ذي المقدّمة أم لا؟ فهذه مسألة عقليّة كلّيّة لتختصّ بمسائل الكتاب والسنّة، ولكنّه إذا تحقّقت هذه الملازمة استفدنا فيالمسائل الشرعيّة من وجوب الصلاة ـ مثلاً ـ الوجوب الغيري للوضوءولسائر المقدّمات والشرائط، فيكون موضوع العلم نوعاً من أنواع مسائله،وموضوع المسائل أعمّ منه، وهذه الصورة التي تكون بين المشهور مختلففيها، من حيث كونها عرضاً ذاتيّاً أو عرضاً غريباً. وهذه إشكالات واردةعلى مبنى المشهور.
وأمّا على مبنى المحقّق الخراساني قدسسره فتندفع جميع الإشكالات المذكورة؛ لأنّكلّ هذه الصُّور عنده عرض ذاتي بلا ريب، ولكن يستفاد من كلمات اُستاذنالسيّد الإمام قدسسره إشكالٌ على هذا المبنى أيضاً، وهو: إنّا نرى بعض العلوم أنّنسبة موضوعه وموضوعات مسائله نسبة الكلّ والجزء، مثل: علم الجغرافيفإنّ موضوعه عبارة عن مطلق الأرض ويبحث فيه عن العوارض الذاتيّةللأرض، وأمّا موضوع مسائله فهو عبارة عن أرض إيران مثلاً، ونسبتها إلىمطلق الأرض نسبة الجزء إلى الكلّ، وإذا نسب العرض الثابت للجزء إلىالكلّ تكون هذه النسبة على سبيل المجاز والعناية، بل يمكن ألاّ يكون صحيحأصلاً، فهذه واسطة في العروض.
واعلم أنّ الأساس في البحث إثبات أصل العرض ـ «ثبّت العرش ثمّ
(صفحه 37)
انقش» ـ بأنّ المحمولات عرض أم لا؟ وأنّ العرض الذاتي بما فسّره أهلالمنطق والفلسفة ـ من أنّه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ـ يختصّبالواقعيّات أو يشمل الاُمور الاعتباريّة أيضاً؟ لا شكّ في أنّ المراد من العرضعندهم الموجود الذي له واقعيّة خارجيّة، لكنّه غير مستقلّ في الوجود،ويحتاج في وجوده إلى المحلّ، مثل ألوان الأجسام، وإذا كان كذلك فكيفيجري هذا في العلوم الاعتباريّة ـ كالفقه والاُصول وأمثال ذلك ـ مع أنّه ليكون للعرض بهذا المعنى فيها أثر ولا خبر؟!
ويشكل عليهم مع هذا أنّ بعض العلوم واقعيّة محضة لا يتصوّر فيه هذالنحو من العرض، مثل علم الكلام والعرفان، كقولك: اللّه تعالى عالمٌ، لا شكّفي أنّه واقع محض، مع أنّ علمه تعالى عين ذاته، ولا يعقل التعبير عن علمهتعالى بالعرض، وإنّا نبحث عن العوارض الذاتيّة للّه تعالى!
وأمّا الإشكال الأهمّ فإنّه يكون في العلوم الاعتباريّة، فإنّك تقول في علمالفقه ـ مثلاً ـ : الصلاة واجبةٌ، ونسأل هل الصلاة معروضة للوجوبوالوجوب عرض لها؟ وعلى فرض كونها معروضة له هل يكون وجودهالخارجي معروضاً له أو وجودها الذهني أو ماهيّتها؟ وكلّها لا يعقل أن تكونمعروضاً له؛ إذ لو كان وجودها الخارجي معروضاً لابدّ من إيجاده أوّلاً ثمّيعرض الوجوب عليه ثانياً، مع أنّ وجود الصلاة يوجب سقوطه، ولو كانوجودها الذهني معروضاً له فيوجب تصوّرها الذهني سقوط التكليف في مقامالامتثال، وهو كما ترى. ولو كانت ماهيّتها معروضة له قلنا: المطلوب للمولىهو وجودها الخارجي لا ماهيّتها، مع أنّ نفس الوجوب من الاُمورالاعتباريّة التي تنتزع من صيغة الأمر.
(صفحه38)
بيان ذلك: أنّ لفظ العرض في المنطق والفلسفة قد يطلق في بابإيساغوجي في مقابل الذات والذاتيّات، مثل: العرض العامّ والخاصّ فيالكلّيّات الخمس، وقد يطلق في باب البرهان في مقابل الجوهر. والعرض فيالإطلاق الثاني يشترك مع الجوهر من جهة، وهي أنّهما ذا واقعيّة حقيقيّة ولهمما بإزائهما في الخارج، ويفترق معه من جهة اُخرى، وهي أنّ الجوهر مستقلّفي الوجود ولا يحتاج إلى الغير، بخلاف العرض؛ إذ مع كونه واقعيّة منالواقعيّات يحتاج في وجوده الخارجي إلى الجوهر والمعروض، مثل: البياضالذي له واقعيّة، ولكن في عين واقعيّته يحتاج إلى الجسم في وجوده الخارجي.
وأمّا العرض الذي يطلق في باب إيساغوجي في مقابل الذات والذاتيّاتفقد يكون جوهراً، وقد يكون مقابله، أي من المقولات العرضيّة، وهذا القسممن العرض لا يطلق على الاُمور الاعتباريّة، بل يطلق على الاُمور الواقعيّة.
والظاهر أنّ المراد من العرض في عبارة المحقّق الخراساني قدسسره (1) ـ موضوعكلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ـ هو العرض الذي يطلق في بابإيساغوجي في مقابل الذات والذاتيّات، وإذا كان الأمر كذلك ننظر في الفقهومسائله، وأنّ العرض بهذا المعنى هل يجري فيه أم لا؟ ومن البديهي أنّهيبحث في الفقه إمّا عن الأحكام الوضعيّة ـ مثل الدم نجسٌ والبول نجسٌوأمثال ذلك ـ وإمّا عن الأحكام التكليفيّة ـ مثل: الصلاة واجبةٌ، الصومواجبٌ ـ ومن المعلوم أنّ الوجوب والنجاسة من الاُمور الاعتباريّة ـ كالملكيّةوالزوجيّة ـ التي اعتبرها العقلاء والشارع، والنجاسة أيضاً لم تكن عبارة عنوجوب الاجتناب فقط، بل للشارع فيها حكمان:
(صفحه 39)
الأوّل حكم ابتدائي وضعي بأنّ هذا نجسٌ، والثاني: حكم تكليفي في طوله،وهو أنّ النجس يجب اجتنابه، وهكذا في باب الزوجيّة. وفي طوله يقولالشارع: يجوز النظر إلى الزوجة والاستمتاع بها.
ولا إشكال ولا خلاف في كونها من المسائل الفقهيّة، مع أنّ النجاسةوهكذا الوجوب لا يكونا عرضاً للدم أو الصلاة، بل هما من الاُمورالاعتباريّة. وهكذا في باب البيع، فلو قلنا: «البيع مُملِّكٌ» لا شكّ في أنّ الملكيّةأمر اعتباري، ولا يكون عرضاً للبيع فضلاً من كونه ذاتيّاً أو غريباً.
وهكذا في باب الأحكام التكليفيّة مثل: الصلاة واجبة، فنقول: هلالموضوع للوجوب هو الصلاة الموجودة في الخارج؟ ولا شكّ في كونها ظرفلسقوط التكليف، وإذا تحقّقت الصلاة في الخارج سقط الوجوب، فلا تكونالصلاة في الخارج معروضاً للوجوب، أو الموضوع والمعروض له هو الصلاةالموجودة في الذهن، وإذا كان كذلك هل هي الصلاة الموجودة في ذهن المكلّفأو الموجودة في ذهن المولى؟ إن كان المراد هو الأوّل فمجرّد الالتفات إلىالصلاة وتصوّرها يكفي في مقام الامتثال. وهو كما ترى.
ولو كان المراد هو الثاني ففيه: أوّلاً: أنّ الصلاة تتحقّق في ذهن المولى بمجرّدتصوّرها، ولا يحتاج إلى تحقّقها في الخارج من المكلّف. وثانياً: أنّ الصلاةبوصف وجودها الخارجي ليست قابلة للامتثال في الخارج، أو أنّ الموضوعوالمعروض له هي ماهيّة الصلاة مع قطع النظر عن الوجودين المذكورين.
وفيه: أنّ المطلوب للمولى وجود الصلاة لا ماهيّتها.
والحاصل: أنّ المراد من العرض الذاتي ـ سواء كان بمعنى المشهور أو بالمعنىالذي ذكره المحقّق الخراساني قدسسره ـ لا يخلو عن إشكال، والإشكال المهمّ بالنسبة