(صفحه350)
إلاّ عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ وإلقاءه إلى المخاطب خارجاً، ولذا لايرىالمخاطب إلاّ المعنى، فإنّه الملحوظ أوّلاً وبالذات، واللفظ ملحوظ بتبعه وفانفيه، فلازم استعمال اللفظ في المعنيين على نحو الاستقلال تعلّق اللحاظالاستقلالي بكلّ واحد منهما في آن واحد كما لو لم يستعمل اللفظ إلاّ فيه. ومنالواضح أنّ النفس لا تستطيع أن تجمع بين اللحاظين المستقلّين في آن واحد،فلا شكّ في أنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد يستلزم ذلك، والمستلزمللمحال محال.
وجوابه: أنّ النفس بما أنّها جوهر بسيط ولها صفحة واسعة تقدر أن تجمعبين اللحاظين المستقلّين في صفحتها في آن واحد.
ويدلُّ على ذلك اُمور:
الأوّل: أنّا إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدنا أنّها تقدر على تصوّر اُمور متضادّةأو متماثلة بتصوّرات مستقلّة في آن واحد، فإنّ إسناد الرؤية ـ مثلاً ـ إلى العينأو النفس إسناد حقيقي، ومعلوم أنّ النفس بما لها من السعة تقدر على رؤيةعدّة أشخاص في آن واحد بلا تقدّم وتأخّر، فالرؤية مع كونها عملاً للنفستستلزم أن يكون المرئي متعدّداً، فلا يكون اجتماع اللحاظين فيها ممتنعاً أصلاً.
الثاني: أنّ استفادة النفس في آن واحد من قوّة السامعة والباصرةواللامسة لا تكون قابلة للإنكار، فكيف تقدر النفس في آن واحد على لحاظالمسموع والملموس وأمثال ذلك؟! فيكشف أنّ للنفس سعة خاصّة تقدر بهبما لا يمكن صدوره عن المادّي.
الثالث: أنّ في القضايا الحمليّة التي ملاكها الاتّحاد والهوهويّة وإن كانالموضوع متقدّماً والمحمول متأخّراً من حيث اللفظ، إلاّ أنّ حمل الشيء والحكم
(صفحه 351)
بثبوته له كقولنا: «زيد قائم» يستدعي لحاظ كلّ من الموضوع والمحمول في آنواحد، وهو آن الحكم، وإلاّ لكان الحكم من النفس ممتنعاً، فلابدّ حين الحملوالحكم من الالتفات إليهما، وحضورهما معاً في النفس بلا تقدّم وتأخّر،فالحمل يستلزم الجمع بين اللحاظين الاستقلاليّين.
الرابع: أنّه لا إشكال في أنّ قولنا: السواد والبياض متضادّان قضيّةصحيحة، ولاريب في أنّ الموضوع فيها عبارة عن السواد والبياض بلا تقدّموتأخّر في موضوعيّة أحدهما على الآخر، فالمتكلّم حين حمل المتضادّينعليهما إمّا أن يكون غافلاً عنهما، وإمّا أن يكون ملتفتاً إلى كلّ واحد منهما ولثالث في البين، وحيث إنّ الأوّل غير معقول فتعيّن الثاني، فلابدّ من حضورهمولو في آن واحد عند النفس معاً حتّى يصحّ الحمل، فالاستحالة التي ادّعىالمحقّق النائيني قدسسره في جانب المعنى ـ أي اجتماع اللحاظين المستقلّين في آن واحدعند النفس ـ ليست بتامّة، كما أنّ الاستحالة التي ادّعاها المحقّق الخراساني قدسسره فيجانب اللفظ أيضاً ليست في محلّها.
وقد ذكر طريق ثالث للاستحالة وهو: أنّ للمفاهيم والماهيّات تصوّروجودات خمسة: الأوّل: الوجود العيني الخارجي، الثاني: الوجود الذهني،الثالث: الوجود الإنشائي، ولكنّه منحصر ببعض المفاهيم كمفهوم الطلبوأمثاله، الرابع: الوجود الكتبي، الخامس: الوجود اللفظي. وهو أنّ تحقّق العلقةالوضعيّة بين اللفظ والمعنى يقتضي أن يكون اللفظ وجوداً تنزيليّاً للمعنى،فيكون «زيد» من حيث وجوده الخارجي مصداقاً واقعيّاً ووجوداً خارجيّلماهيّة الإنسان، وأمّا من حيث وجوده اللفظي فيكون وجوداً تنزيليّاً لها وإنكان هذا اللفظ وجوداً خارجيّاً ومصداقاً واقعيّاً لماهيّته اللفظيّة.
(صفحه352)
وبعبارة أوضح: أنّه لا إشكال في أنّ قضيّة «زيدٌ إنسانٌ» قضيّة حمليّةبالحمل الشائع الصناعي الذي ملاكه اتّحاد الموضوع والمحمول من حيثالوجود، وهكذا قضيّة «زيدٌ لفظٌ» التي يكون الموضوع فيها عبارة عن لفظ«زيد» قضيّة حمليّة بالحمل الشائع الصناعي، فإنّ لفظ «زيد» ـ أي الموضوع إذا لوحظ بالنسبة إلى ماهيّة اللّفظ ـ أي المحمول ـ يكون بينهما اتّحاد وجودي؛إذ لا شكّ في تحقّق الاتّحاد الوجودي بين لفظ «زيد» وماهيّة اللفظ، فيكونهذا اللفظ مصداقاً واقعيّاً لماهيّة اللفظ، كما أنّ معناه يكون مصداقاً واقعيّلماهيّة الإنسان، ولكنّه مع ذلك يكون لفظ «زيد» مرحلةً من معناه ووجودتنزيليّاً له.
ثمّ استفاد المستدلّ من ذلك بأنّ اجتماع الوجودين الواقعيّين في فرد واحدمن المحالات؛ إذ لا يمكن اجتماع فردين من ماهيّة الإنسان ـ مثلاً ـ في وجودواحد؛ لأنّ تعدّد الفرديّة ملازم لتعدّد الوجودات، كما لا يخفى، فإذا كان الحالفي الوجودات الحقيقيّة كذلك فيكون في الوجودات النزيليّة أيضاً كذلك، فليمكن أن يكون اللفظ الواحد وجوداً تنزيليّاً للمعنيين، فيكون استعمال اللفظالواحد في أكثر من معنى واحد من المحالات.
وفيه: أوّلاً: أنّ تقسيم وجود الماهيّات والمفاهيم إلى الأقسام الخمسةالمذكورة ممّا لا دليل عليه من العقل والنقل، وإنّما يستحسنه الذوق في مقامالتخيّل والتصوّر فقط؛ إذ لا يمكن بحسب الواقع والدقّة العقليّة أن يكون اللفظوجوداً تنزليّاً للمعنى؛ لأنّهما من المقولتين المتباينتين، فكيف يمكن أن يكونلفظ «زيد» الذي يكون من مقولة كيف المسموع وجوداً للمعنى الذي يكونمن مقولة الجوهر؟! ولا يعقل هذا المعنى أصلاً. نعم، يكون بينهما ارتباط
(صفحه 353)
وضعي واعتباري بعنوان حكاية اللفظ عن المعنى.
وثانياً: على فرض تسليم أن يكون اللفظ وجوداً تنزيليّاً للمعنى، ولكنّه لدليل على أن يكون اجتماع الوجودين التنزيليّين في فرد واحد كاجتماعالوجودين الواقعيّين فيه من المحالات، وإثبات هذه المماثلة والمشابهة يحتاجإلى الدليل، وفقدانه يوجب بطلان الاستدلال رأساً، مع أنّه تحقّق لنا دليل علىخلافه، وهو أنّا نرى اجتماع الوجود الحقيقي والتنزيلي في فرد واحد، كما فيالمثال المذكور في الاستدلال، يعني «زيدٌ لفظٌ»، فانّ لفظ «زيد» اجتمع فيهالوجودان الحقيقي والتنزيلي؛ إذ هو وجود تنزيلي بالنسبة إلى المعنى وماهيّةالإنسان، ووجود حقيقي ومصداق واقعي بالنسبة إلى ماهيّة اللفظ، ولا يختصّكونه وجوداً تنزيليّاً له في صورة الاستعمال أو غيره، فإذا تحقّق اجتماعالوجودين الحقيقي والتنزيلي فلا إشكال في اجتماع الوجودين التنزيليّين أيضاً،فما هو من المحالات المسلّمة هو اجتماع الوجودين الواقعيّين في فرد واحد لغير، فلا يكون استعمال لفظ واحدٍ في أكثر من معنى واحدٍ مستحيلاً في مقامالثبوت.
وإذا فرغنا من مرحلة الإمكان تصل النوبة إلى المرحلة الثانية، وهيمرحلة ترخيص الواضع وعدمه، بمعنى أنّ هذا الاستعمال الممكن جائز عندهأم لا، غاية ما ثبت لنا في هذه المرحلة أنّ الواضع مع التوجّه والالتفات وضعلفظ العين ـ مثلاً ـ لمعان متعدّدة بأوضاع متعدّدة، ولا نعرف منه تعهّداً وشرطبأن يقول: هذا الوضع مشروط بعدم استعمال المستعمل في أكثر من معنىواحد حين الاستعمال، بل يقتضي نفس وضع اللفظ لمعان متعدّدة استعماله فيأكثر من معنى واحد، مع أنّا لا نرى في كُتُب أهل اللغة وكتب التأريخ
(صفحه354)
من الشرط المذكور أثراً ولا خبراً.
ولكنّ المحقّق القمي قدسسره ذكر طريقاً آخر لعدم الجواز في كتاب القوانين(1)،وهو قوله في مقام الإشكال على صاحب المعالم قدسسره بأنّه: «لا أقول: إنّ الواضعيصرّح بأنّي أضع ذلك اللفظ لهذا المعنى بشرط ألاّ يراد معه شيء آخروبشرط الوحدة، ولا يجب أن ينوي ذلك حين الوضع أيضاً، بل أقول: إنّمصدر الوضع من الواضع مع الانفراد وفي حال الانفراد، لا بشرط الانفرادحتّى تكون الوحدة جزءً للموضوع له».
توضيح كلامه: أنّ تصريح الواضع بعدم الجواز ليس بلازم كقوله: إنّيوضعتُ لفظ العين للعين الجارية بقيد الوحدة، وللعين الباكية أيضاً كذلك،وهكذا... بل الواضع حين الوضع يلاحظ اللفظ والمعنى في حال الوحدةويضعه له في هذا الحال، وهو يكفي في عدم جواز استعماله في أكثر من معنىواحد؛ إذ لابدّ في الاستعمال من التبعيّة والتأسّي من الوضع، فيقتضي اتّصافالمعاني حين الوضع بقيد الوحدة أن يلاحظ هذا الحال حين الاستعمال أيضاً،ولذا لا يجوز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
وفيه: أوّلاً: أنّه لو سلّمنا أنّ المعنى حين الوضع كان في حال الوحدة، ولكنّرعاية جميع خصوصيّات حال الوضع حين الاستعمال ممّا لم يقل به أحد؛ إذ لوكان الأمر كذلك فلابدّ من رعاية خصوصيّات الواضع وحالاته وزمانالوضع ومكانه، فإذا كان الواضع حين الوضع مستقبلاً للقبلة ـ مثلاً ـ فيجب فيحال الاستعمال رعاية هذا الحال، وهكذا، فلابدّ أن يراعى حين الاستعمالالخصوصيّات التي شرطها الواضع حين الوضع فقط، فتكون كبرى بيانه
- (1) قوانين الاُصول 1: 63 ـ 64.