(صفحه396)
ولكنّ كلا القولين ـ في الفقه وما نحن فيه ـ باطلان، فإنّ القضيّة الحمليّةتوجب الاتّحاد بين الموضوع والمحمول، لا أنّها توجب تغيير المعنى المحمول كملا يخفى، مع أنّ لفظ «التاجر» وإن كان بصورة المجرّد يكون معناه التصوريعبارة عن حرفة التجارة.
وأمّا الجواب عمّا قيل في الماء الجاري فإنّه إذا لوحظ من حيث معناهاللّغوي فلا تكون فيه الخصوصيّة المذكورة، وأمّا إذا لوحظ من حيث معناهالاصطلاحي فتكون فيه هذه الخصوصيّة، كما مرّ مثله في لفظ المجتهد.
والظاهر ههنا أنّ اسم الآلة وضع لما اُعدّ للآليّة للمبدأ الفعلي ولو لم يقع بهالتلبّس بالمبدأ أصلاً، فالمفتاح وضع لما من شأنه الفتح الفعلي، ولذا يصدق لفظ«المفتاح» حقيقة على كلّ ما فيه قابليّة للفتح وإن لم يقع الفتح به خارجاً، فمدامت الشأنيّة موجودة فالتلبّس فعلي، ويتحقّق الانقضاء بزوال القابليّة عنه،فيجري النزاع فيه بأنّ إطلاق «المفتاح» على ما انقضى عنه المبدأ هل يكونبنحو الحقيقة أو المجاز؟
وهكذا اسم المكان ـ كالمسجد ـ وضع لما اُعدّ لأن يتحقّق فيه السجودالفعلي الخارجي، فيصدق هذا العنوان على كلّ ما اُعدّ للسجدة فيه مادام هذالتهيّؤ باقياً، وعند زواله يصير منقضياً عنه المبدأ، و«المحبس» يعني ما اُعدَّ لأنيحبس فيه المتخلّفون والمجرمون وهكذا، إلاّ أنّه لايجري في بعض أسماءالأمكنة.
وحكى بعض الأعلام عن اُستاذه القول بخروج اسم المفعول عن محلّالنزاع، بتقريب: أنّ الهيئة فيه وضعت لأن تدلّ على وقوع المبدأ على الذات،وهذا المعنى ممّا لا يعقل فيه الانقضاء؛ لأنّ ما وقع على الذات كيف يعقل
(صفحه 397)
انقضائه عنها؟! ضرورة أنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه، والمفروض أنّالضرب قد وقع عليها، فدائماً يصدق أنّها ممّن وقع عليه الضرب، فلا يتصوّرفيه الانقضاء.
ثمّ أجاب عنه حقّ جوابه بأنّه لو تمّ ما ذكره لجرى ذلك في اسم الفاعلأيضاً، فإنّ الهيئة فيه موضوعة لأن تدلّ على صدور الفعل عن الفاعل، ومنالمعلوم أنّه لا يتصوّر انقضاء الصدور عمّن صدر عنه الفعل خارجاً؛ لأنّالشيء لاينقلب عمّا وقع عليه، والمبدأ واحد ـ كالضرب مثلاً ـ لا يتفاوتحاله بالإضافة إلى الفاعل أو المفعول، غاية الأمر أنّ قيامه بأحدهما قيامصدوري وبالآخر قيام وقوعي.
فالحقّ معه؛ إذ المراد من الوقوع والصدور المذكورين هو الوقوع والصدورالفعليان، ومعلوم أنّ الفعليّة تتصوّر بالنسبة إليهما، فخروج اسم المفعول عنمحلّ النزاع مستنداً إلى الاستحالة غريب عنه.
وأمّا ما ينتهي دقّة النظر إليه في مثل التاجر أنّ مادته وضعت للتجارةالفعليّة، وهكذا هيئته؛ إذ لا فرق بينه وبين الضارب والشارب من حيثالهيئة، إلاّ أنّ العرف يستفاد من مجموع هيئته ومادّته ـ لكثرة الاستعمال أوغيره ـ معنى آخر، ويطلق عندهم على معنى غير الموضوع له بنحو الحقيقة،وهو من له حرفة التجارة إن لم تكن قرينة على خلافه، فلا يرتبط هذا المعنىبمحلّ النزاع في باب المشتقّ؛ إذ النزاع ههنا يكون في مفاد الهيئة فقط.
(صفحه398)
الأمر الخامس
في المراد من كلمة «الحال» في العنوان
أنّ المراد من الحال المأخوذ في عنوان المسألة هل هو حال النطق أو الجريأو التلبّس؟ إذ الحالات الثلاث قد تتّفق كقولنا: «زيدٌ ضاربٌ الآن» مع كونهضارباً في حال النطق، وقد يختلف حال النطق مع حالي التلبّس والجريولكنّهما اتّفقا، كقولنا: «كان زيدٌ ضارباً أمس» و «زيدٌ سيكون غداً ضارباً» إذجعل الأمس والغد ظرفاً للإطلاق والجري معاً، وقد تختلف حال التلبّس معحال الجري والنطق، كقولنا: «زيدٌ ضارب أمس» إذا جعل الأمس قيدللتلبّس فقط دون الجري، وقد يختلف كلّ منها مع الآخر، وهو فيما إذا كانالتلبّس قبل الأمس والجري في الأمس والتكلّم الآن، كقولنا: «كان زيدضارباً أمس» فهو حقيقة عند الأعمّي؛ إذ لا فرق عنده بين أن تكون النسبةفي الأمس أو قبله أو بعده، إذا كان التلبّس بالمبدأ قبل الأمس.
وقال المحقّق الخراساني قدسسره (1): «إنّ المراد بالحال في عنوان المسألة هو حالالنسبة ـ على ما صحّحه المشكيني قدسسره ـ لا حال النطق؛ ضرورة أنّ مثل «كانزيد ضارباً أمس» أو «سيكون غداً ضارباً» ـ بشرط جعل الأمس والغد قيد
- (1) كفاية الاُصول 1: 66 ـ 67.
(صفحه 399)
للجري فقط ـ حقيقة إذا كان متلبّساً بالضرب في الأمس في المثال الأوّلومتلبّساً به في الغد في الثاني، فجري المشتقّ حيث كان بلحاظ حال التلبّسوإن مضى زمانه في أحد المثالين ولم يأت بعدُ في الآخر كان حقيقة بلا خلاف،ولاينافيه الاتّفاق على أنّ مثل «زيد ضارب غداً» مجاز، فإنّ الظاهر أنّه فيما إذكان الجري في الحال والتلبّس في الاستقبال».
لكنّ التحقيق: أنّ سرّ المسألة ـ كما قال به اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره وغفلهنوع من المحققين ـ عبارة عن أنّ المراد بالحال في عنوان البحث ليس أحدالأزمنة المذكورة؛ إذ لا دخل للزمان أصلاً في باب المشتقّ، وأثبتنا مع التكلّفأنّه لا دخل للزمان في مدلول الأفعال، وأمّا المشتقّات الداخلة في محلّ البحثـ كاسم الفاعل والمفعول ـ فلا دخل للزمان في مدلولها قطعاً.
على أنّ النزاع في باب المشتقّ يدور مدار معنى الهيئة والموضوع لها، ومنالمعلوم أنّ الحمل متأخّر عن مقام الوضع، فإنّ حمل الإنسان على زيد ـ مثلاً متفرّع على العلم بمعنى الإنسان، فلا دخل لحال النسبة في ما نحن فيه، وهكذالتكلّم باللّفظ متأخّر عن اللفظ ووضعه، فكيف يكون هناك دخل لحال النطقفي الموضوع المتقدّم عليه من حيث الرتبة؟! مع أنّه لو كان المراد بالحال فيالعنوان حال التلبّس بأنّ المشتقّ حقيقة في المتلبّس بالمبدأ في حال التلبّس أوالأعمّ منه فهو يصدق على المنقضي قطعاً؛ إذ المنقضي أيضاً كان متلبّساً بالمبدفي حال التلبّس، فيكون البحث ههنا في المفهوم اللّغوي التصوّري، وأنّ هيئةالفاعل ـ مثلاً ـ وضعت لمعنى لا ينطبق إلاّ على من يصدر منه المبدأ أو لمعنىأعمّ منه.
وبعبارة اُخرى: أنّ الجامع الانتزاعي الموضوع له ينطبق على الفرد المتلبّسبالمبدأ فعلاً فقط أو ينطبق على المنقضي أيضاً.
(صفحه400)
وربّما يتوهّم أنّ بعض المشتقّات لا يكون متلبّساً بالمبدأ كالمعدوم والممتنع،فإنّ الذات فيهما تكون متلبّسة بالعدم، إلاّ أنّ ثبوت التلبّس بالعدم للذاتمتوقّف على ثبوت الذات؛ للقاعدة الفرعيّة؛ بأنّ ثبوت شيء لشيء فرعثبوت المثبت له، مع أنّ تحقّق الذات والتلبّس بالعدم من الممتنعات التيلاتنكر.
وجوابه: أنّ القاعدة الفرعيّة تجري إذا تحقّقت الذات واقعاً، ثمّ تلبّسهبالمبدأ، فإن قلنا بتركّب معنى المشتقّ بأنّ معنى المعدوم عبارة عن ذات ثبت لهالعدم فيلزم هذا الإشكال، وأمّا إن قلنا ببساطة معنى المشتقّ ـ كما سيأتي ـ فلمجال لجريان القاعدة المذكورة، فالتلبّس بالمبدأ متحقّق في جميع المشتقّات، إلأنّ تلبّس كلّ شيء بحسبه، حتّى في مثل المعدوم والممتنع مع ملاحظة جهتينفيهما: الاُولى: أنّ للمشتق معنىً تصوريّاً ومفرداً، الثانية: أنّ له معنىً بسيطاً غيرمركّب. هذا إذا لوحظ كلّ من الممتنع والمعدوم مجرّداً ومفرداً.
وأمّا إذا قلنا بصورة القضيّة مثل «زيدٌ معدومٌ» و «شريك الباري ممتنع»فهل تجري القاعدة الفرعيّة فيهما أم لا؟ ومن المعلوم أنّ الحمل فيهما حمل شائعصناعي، وملاكه الاتّحاد في الوجود، فيتّحد شريك الباري مع الممتنع فيالوجود، وهكذا في «زيد معدوم»، وحينئذٍ تحكم القاعدة المذكورة بأنّ ثبوتالامتناع لشريك الباري فرع ثبوت شريك الباري، فلابدّ من تحقّقه ووجودهحتّى يحمل الممتنع عليه، فيلزم انقلاب العدم بالوجود والامتناع بالإمكان.
وأجاب عنه المحقّق الأصفهاني قدسسره (1) تبعاً لصدر المتألّهين(2): أنّ صدق
- (1) نهاية الدراية 1: 192.