(صفحه 401)
المشتقّ على شيء بالحمل الشائع الذي مفاده الاتّحاد في الوجود على أنحاء،فإنّ الوجود خارجي وذهني، وكلّ منهما بتّي وتقديري، ففي قولنا: «زيدكاتب» يكون الاتّحاد في الخارج بتّاً، وفي قولنا: «الإنسان نوع» يكون الاتّحادفي الذهن بتّاً، وفي قولنا: «كذا ممتنع» يكون الاتّحاد في الخارج تقديراً إن كانالنظر إلى الخارج وإلاّ ففي الذهن، فإنّ العقل بتعمّله واقتداره يقدّر ويفرضلعنوان المعدوم والممتنع وأشباههما فرداً مّا بحيث تكون ذاته محض الهلاكوعين البطلان، فيحكم عليه وبه بمرآتيّة العنوان، فيتّحد هذا الفرد الفرضي معالممتنع في الوجود، فالاتّحاد في الوجود أعمّ من أن يكون بحسب الواقع أوبتعمّل العقل واختراعه.
وأشار اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1) إلى ما هو الأولى في الجواب عنالإشكال، وهو: أنّ قضيّة «شريك الباري ممتنع» وإن كانت على الظاهر قضيّةحمليّة موجبة إلاّ أنّها في الواقع والباطن قضيّة سالبة محصّلة، ولا تكونمحتاجة إلى وجود الموضوع، فإنّها تصدق مع انتفاء الموضوع كصدقها معانتفاء المحمول، كقولنا: «زيد ليس بقائم» فإنّه يصدق مع وجود «زيد» وانتفاءالقيام وعدم اتّصافه بالقيام، وهكذا يصدق مع عدم وجود «زيد» رأساً، فليكون ههنا محلّ جريان قاعدة فرعيّة، وإن أبيت قلنا: إنّ القاعدة الفرعيّةتجري فيما كان للمحمول واقعيّة وحقيقة، وأمّا إذا لم يكن كذلك ـ كالمعدوموالممتنع ـ فهو خارج عن القاعدة بالتخصيص أو التخصّص، كما يستفاد ذلكمن لفظ «شيء» في عنوان القاعدة.
- (1) تهذيب الاُصول 1: 112.
(صفحه402)
الأمر السادس
لا اُصل في المسألة
وأنّه إذا لم تنته الأدلّة في باب المشتقّ إلى النتيجة بأنّه وضع لخصوصالمتلبّس أو للأعمّ منه، بل نبقى في حال الشكّ، فهل يمكن تعيين الموضوع لهبالأصل أم لا؟
قال صاحب الكفاية قدسسره (1): «لا أصل في نفس هذه المسألة يعوّل عليه عندالشكّ»، ثمّ أجاب عن شبهة مقدّرة وهي: أنّ الخاصّ عبارة عن العامّ معخصوصيّة زائدة، فالشكّ في المسألة يرجع إلى أنّ الواضع لاحظ هذهالخصوصيّة الزائدة أم لا؟ فتجري أصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة، فيستفادأنّ المشتقّ وضع للأعمّ.
وحاصل جوابه عنها: أوّلاً: هذه معارضة لأصالة عدم ملاحظة العموم؛ إذالنزاع في باب المشتقّ يكون في المفهوم التصوّري لا في المصاديق والأفراد،ومن المعلوم أنّ مفهوم الإنسان متضاد مع مفهوم الحيوان وإن كان من حيثالمصداق بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً، فيسقط الأصلان بالمعارضة.
- (1) كفاية الاُصول 1: 67 ـ 68.
(صفحه 403)
وثانياً: لا دليل على اعتبار هذا الأصل في تعيين الموضوع له. فإن قلنا: إنّمنشأه هو بناء العقلاء فهذا ممّا يحتاج إلى الإثبات، ولا دليل لإثباته؛ لأنّالثابت عند العقلاء اعتبار الأصل المذكور في تعيين المراد ـ مثل أصالة عدمالقرينة إذا شكّ في إقامتها بعد قوله: «رأيت أسداً» لا في كيفيّة الإرادةوتشخيص الموضوع له مع العلم بالمراد.
وإن قلنا: إنّ منشأه عبارة عن الأدلّة الشرعيّة مثل «لا تنقض اليقينبالشكّ» فلا مانع منه، إلاّ أنّ الإشكال من ناحية اُخرى، وهو: أنّ من شرائطالاستصحاب أن يكون المستصحب أثراً شرعيّاً أو موضوعاً له، وإن لم يكنكذلك بل كان لازماً عقليّاً له أو عرفيّاً يترتّب عليه الأثر الشرعي، فلا يجريالاستصحاب إلاّ على القول بالأصل المثبت، والمستصحب في ما نحن فيه ـ أيعند عدم ملاحظة الخصوص ـ لا يكون أثراً شرعيّاً ولا موضوعاً له. نعميترتّب الأثر الشرعي على ملاحظة العموم، لكنّه لازم عقلي له.
ثمّ قال صاحب الكفاية قدسسره (1): «وأمّا الأصل العملي فيختلف في الموارد».
توضيح كلامه: أنّ تشريع الحكم قد يكون بعد انقضاء المبدأ كما إذا قال:«أكرم كلّ عالم» بعد انقضاء العلم عن الذات المتّصفة به، وقد يكون قبلانقضائه عنها، فإن كان بعده فمقتضى أصل البراءة عدم الوجوب؛ لأنّ المشتقّإن كان حقيقة في الأعمّ فوجوب إكرامه ثابت، وإن كان حقيقة في خصوصحال التلبّس فإكرامه غير واجب، فالشكّ في معنى المشتقّ يوجب الشكّ فيأصل التكليف وحدوث الوجوب، ومقتضى أصالة البراءة عدمه.
وأمّا إن كان تشريعه قبل انقضاء العلم عنها فمقتضى الاستصحاب بقاء
(صفحه404)
وجوبه؛ إذ المفروض القطع بوجوب إكرامه قبل زوال العلم عنه، فبعده يشكّفي ارتفاع الوجوب؛ إذ على تقدير وضع المشتقّ للأعمّ فالحكم باقٍ، وعلىتقدير وضعه للأخصّ فالحكم مرتفع، وحيث إنّ الحكم مشكوك فيهفالاستصحاب يقتضي بقاءه، فمع أنّ منشأ الشكّ في كلتا المسألتين واحد لكنّالأصل الجاري في كلّ منهما غير الآخر كما لا يخفى.
وقال بعض الأعلام(1): إنّ ما أفاده صاحب الكفاية قدسسره أوّلاً من أنّه لا أصلهنا ليعوّل عليه عند الشكّ في الوضع، فهو صحيح، وأمّا ما أفاده ثانياً من أنّهلا مانع من الرجوع إلى الأصل الحكمي في المقام، وهو أصالة البراءة في مواردالشكّ في الحدوث، والاستصحاب في موارد الشكّ في البقاء، فلا يمكنالمساعدة عليه؛ إذ المرجع في كلا الموردين هو أصالة البراءة دونالاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب لايجري في موارد الشبهات المفهوميّة ـ كمأشار إليه شيخنا العلاّمة الأنصاري قدسسره ـ لا حكماً ولا موضوعاً، أمّالاستصحاب الحكمي فإنّه لم يحرز فيه الاتّحاد المعتبر بين القضيّة المتيقّنةوالمشكوكة، فإذا شكّ في بقاء وجوب الصوم بعد استتار القرص وقبل ذهابالحمرة المشرقيّة عن قمّة الرأس من جهة الشكّ في مفهوم المغرب، وأنّ المراد بههو الاستتار أو ذهاب الحمرة؟ فعلى الأوّل كان الموضوع ـ وهو جزء النهار منتفياً، وعلى الثاني كان باقياً، وبما أنّا لم نحرز بقاء الموضوع فلم نحرز الاتّحادبين القضيتين، وبدونه لا يمكن جريان الاستصحاب.
وأمّا الاستصحاب الموضوعي ـ أي النهاريّة ـ فلعدم الشكّ في شيءخارجاً مع قطع النظر عن وضع اللفظ وتردّد مفهومه بين الأعمّ والأخصّ،
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 242 ـ 245.
(صفحه 405)
فإنّ استتار القرص حسّي معلوم لنا بالعيان، وذهاب الحمرة غير متحقّقكذلك، فما هو المستصحب؟ وما نحن فيه من هذا القبيل بعينه، فإنّ الشبهة فيهمفهوميّة، والموضوع له مردّد بين خصوص المتلبّس أو الأعمّ منه ومنالمنقضي، فإذا كان «زيد» عالماً وتشريع الحكم أيضاً كان في زمانه تلبّسهبالعلم، ففي زمان انقضائه عنه ماذا يستصحب؟ فإن قلنا بالاستصحابالحكمي ـ يعني زيد كان واجب الإكرام فبعد الشكّ يستصحب وجوبإكرامه ـ فهو مردود؛ بأنّ وجوب الإكرام في السابق كان بلحاظ تلبّسه بالعلمقطعاً، وجريان الحكم فيه بعد الانقضاء ليس إلاّ بمعنى جريان حكم متيقّنالعالميّة في حقّ مشكوك العالميّة، وهو كما ترى. فإن قلنا: بالاستصحابالموضوعي ـ أي العالميّة ـ فهو أيضاً مردودٌ؛ بأنّا لا نشكّ في أمر خارجي؛ إذ لشكّ في أنّ زيداً كان متلبّساً بالعلم في الأمس وانقضائه عنه الآن، بل الشكّ فيمفهوم العالم، وجريان الاستصحاب فيه كما ترى.
ويردّ على كلام صاحب الكفاية قدسسره أيضاً: أنّ القول بجريان الاستصحاب فيالفرض الثاني ـ أي تشريع الحكم قبل الانقضاء ـ يستلزم جريانه في الفرضالأوّل ـ أي تشريع الحكم بعد الانقضاء ـ أيضاً؛ إذ لا فرق بين تشريعه قبلالانقضاء وبعده بعد القول بجريان الاستصحاب في الشبهة المفهوميّة؛ بأنّتلبّس زيد ـ مثلاً ـ بالعلم وانقضاءه عنه كان متيقّناً، فإذا صدر الحكم بإكرامكلّ عالم نشكّ في صدق هذا العنوان عليه وعدمه؛ للشكّ في وضع المشتقّلخصوص المتلبّس أو أعمّ منه، فتستصحب العالميّة، فيجري الاستصحاب فيكلا الفرضين على مبناه هذا قدسسره .