(صفحه 405)
فإنّ استتار القرص حسّي معلوم لنا بالعيان، وذهاب الحمرة غير متحقّقكذلك، فما هو المستصحب؟ وما نحن فيه من هذا القبيل بعينه، فإنّ الشبهة فيهمفهوميّة، والموضوع له مردّد بين خصوص المتلبّس أو الأعمّ منه ومنالمنقضي، فإذا كان «زيد» عالماً وتشريع الحكم أيضاً كان في زمانه تلبّسهبالعلم، ففي زمان انقضائه عنه ماذا يستصحب؟ فإن قلنا بالاستصحابالحكمي ـ يعني زيد كان واجب الإكرام فبعد الشكّ يستصحب وجوبإكرامه ـ فهو مردود؛ بأنّ وجوب الإكرام في السابق كان بلحاظ تلبّسه بالعلمقطعاً، وجريان الحكم فيه بعد الانقضاء ليس إلاّ بمعنى جريان حكم متيقّنالعالميّة في حقّ مشكوك العالميّة، وهو كما ترى. فإن قلنا: بالاستصحابالموضوعي ـ أي العالميّة ـ فهو أيضاً مردودٌ؛ بأنّا لا نشكّ في أمر خارجي؛ إذ لشكّ في أنّ زيداً كان متلبّساً بالعلم في الأمس وانقضائه عنه الآن، بل الشكّ فيمفهوم العالم، وجريان الاستصحاب فيه كما ترى.
ويردّ على كلام صاحب الكفاية قدسسره أيضاً: أنّ القول بجريان الاستصحاب فيالفرض الثاني ـ أي تشريع الحكم قبل الانقضاء ـ يستلزم جريانه في الفرضالأوّل ـ أي تشريع الحكم بعد الانقضاء ـ أيضاً؛ إذ لا فرق بين تشريعه قبلالانقضاء وبعده بعد القول بجريان الاستصحاب في الشبهة المفهوميّة؛ بأنّتلبّس زيد ـ مثلاً ـ بالعلم وانقضاءه عنه كان متيقّناً، فإذا صدر الحكم بإكرامكلّ عالم نشكّ في صدق هذا العنوان عليه وعدمه؛ للشكّ في وضع المشتقّلخصوص المتلبّس أو أعمّ منه، فتستصحب العالميّة، فيجري الاستصحاب فيكلا الفرضين على مبناه هذا قدسسره .
(صفحه406)
الأقوال في مسألة المشتق
وإذا فرغنا ممّا ذكرنا من المقدّمات فيقع البحث في أصل النزاع في بابالمشتقّ. قال المحقّق الخراساني قدسسره في هذا المقام: إنّ الأقوال في المسألة وإنكثرت إلاّ أنّها حدثت بين المتأخّرين بعدما كانت ذات قولين بين المتقدّمين؛لأجل توهّم اختلاف المشتقّ باختلاف مبادئه في المعنى ـ كما فصّل صاحبالفصول(1) بين ما كانت مادّته فعلاً لازماً، وبين ما كانت مادّته فعلاً متعدياً؛بأنّ الأوّل حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ، والثاني حقيقة في الأعمّ منه أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال، مثل كونه محكوماً عليه أو محكوماً به، فقالبعضهم باشتراط البقاء في الثاني دون الأوّل، وقد مرّت الإشارة إلى أنّه ليوجب التفاوت فيما نحن بصدده، ويأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال علىما هو المختار، وهو اعتبار التلبّس في الحال؛ وفاقاً لمتأخّري الأصحابوالأشاعرة، وخلافاً لمتقدّميهم والمعتزلة.
وقد مرّ في ضمن بيان المقدّمات أنّ النزاع في باب المشتقّ يكون في المعنىاللغوي وتعيين ماهو الموضوع له لهيئة المشتقّ، وأنّ الأساس في باب المشتقّوالفارق بين المشتقّات هي الهيئات، وأنّ الملاك لدخول المشتقّ في محلّ النزاع
(صفحه 407)
أن يجري على الذات ويحمل عليها وإن لم يكن مشتقّاً نحويّاً كالحرّ والعبدوالزوج والزوجة.
ومن هنا يستفاد أنّ التفصيلات المذكورة في المسألة أجنبيّة عمّا نحن فيه،فإنّها ترجع إلى المبادئ، مع أنّ الواضع حين الوضع لم يتوجّه إلى المبادئواختلافاتها أصلاً، كما أنّه لا دخل لوقوع المشتقّ مسنداً أو مسنداً إليه فيوضع هيئته، فالبحث في المعنى التصوّري للمفرد، سواء كان محكوماً به أومحكوماً عليه، أو غير ذلك، فلابدّ من البحث حول القولين الأصليّين ههنا.وهما القول بكون المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ ومجازاً في غيره،والقول بكونه حقيقة في الأعمّ منه وممّا انقضى عنه المبدأ.
ولا يخفى أنّ المحقّق الخراساني قدسسره (1) أقام لمختاره ثلاث أدلّة، ولكنّها ترجعإلى التبادر كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى، ولاريب في أنّ المتبادر من الهيئات هوخصوص المتلبّس بالمبدأ، وقد قرر في محلّه أنّ التبادر علامة الحقيقة.
وقال صاحب الكفاية قدسسره (2): «إنّ عدم صحّة السلب والاطّراد أيضاً منعلائم الحقيقة».
وقلنا: إنّ الطريق لإثبات الحقيقة منحصر بالتبادر وتصريح الواضع، ولفائدة في شيء آخر حتّى التنصيص من أهل اللغة. وأمّا صحّة الحمل وعدمصحّة السلب فيرجع إلى التبادر، فإنّ حمل المعنى المرتكز في الذهن على اللفظيحتاج إلى اللحاظ، فتكشف الحقيقة حين اللحاظ بالتبادر قبل الحمل، فليكون عدم صحّة السلب دليلاً مستقلاًّ في مقابل التبادر.
(صفحه408)
ثمّ ذكر قدسسره مؤيّداً لصحّة السلب عمّا انقضى عنه المبدأ، وحاصل ما ذكره قدسسره :أنّه لا ريب في مضادة الصفات المأخوذة من المبادئ المتضادّة، كالقائم والقاعدالمأخوذين من القيام والقعود، فهما متضادّان بحسب معناهما المرتكز في الذهن،فلو كان المشتقّ موضوعاً للأعمّ لزم صدق الصفة المنقضية على الذات حيناتّصافهما بضدّها، كصدق القائم على من انقضى عنه القيام حين اتّصافهبالقعود، وهذا علامة كونها صفات متخالفة لا متضادّة، وهو خلاف ما ارتكزفي الذهن، فالتضادّ بين الصفات كالتضادّ بين المبادئ دليل على أنّ المشتقّوضع لخصوص المتلبّس بالمبدأ.
ولكنّه أيضاً يرجع إلى التبادر؛ إذ المتبادر من القائم هو خصوص المتلبّسبالمبدأ، ولذا يكون بينه وبين القاعد مضادة، ولو لم يكن التبادر يمكن القولبعدم المضادّة بين القائم والقاعد، وهكذا بين الأسود والأبيض، فالعمدة منالأدلّة ـ وهو التبادر وغيره ـ إمّا لا أساس له، وإمّا أن يرجع إلى التبادر كما هوالمعلوم.
وأمّا القائل بالأعمّ فلابدّ لنا من البحث معه في مقام الثبوت قبل مقامالإثبات، وهو أنّ الاشتراك قد يكون معنويّاً وقد يكون لفظيّاً، والمشتركاللفظي قد يتحقّق بتعدّد الوضع ـ مثل وضع لفظ «عين» لمعانٍ متعدّدة ـ وقديتحقّق بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، وهو أن يلاحظ معنى كليّاً، ثمّوضع اللفظ لمصاديقه بحيث يكون كلّ مصداق معنى مستقلاًّ له، فيكونالموضوع له متعدّداً بوضع واحد، والاشتراك المعنوي ما يتحقّق بوضع واحدللموضوع له الواحد الجامع بين المعنيين أو المعاني.
والقائل بالأعمّ يدّعي في ما نحن فيه اشتراكاً معنوياً، فلابدّ له من مفهوم
(صفحه 409)
جامع بين المتلبّس والمنقضي حتّى يكون الموضوع له اللفظ المشتقّ، وحينئذٍ لشكّ في أنّه لا يتحقّق جامعٌ ذاتي بينهما، فإنّ المتلبّس واجد ومرتبط بالمبدفعلاً، والمنقضي فاقد وغير مرتبط بالمبدأ فعلاً، ولا اشتراك بين الواجديّةالفعليّة والفاقديّة الفعليّة من حيث الماهيّة والذات.
وأمّا الجامع الانتزاعي فلابدّ له من ثلاث خصوصيّات: الاُولى: أن ليكون للزمان دخل في معنى المشتقّ.
الثانية: أن لا يكون معنى المشتقّ معنى مركبّاً؛ لأنّه بسيط على ما حقّقهالمحقّقون.
الثالثة: أن ينسبق إلى الذهن من سماع هيئة المشتقّ.
ولاريب في أنّ الجامع الانتزاعي مع حفظ هذه الخصوصيّات لا يكونقابلاً للتصوّر أصلاً، وعلى هذا لا محلّ للبحث مع الأعمّي في مقام الإثبات،ولكنّ الإشارة إلى أدلّته لاتخلو من فائدة.
أدلّة القول بالأعمّ
احتجّ القائل بالأعمّ بعدّة وجوهٌ:
الأوّل ـ التبادر: بأنّ المنسبق عن المشتقّ هو المعنى العامّ الشامل للمتلبّسبالمبدأ والمنقضي عنه. وقد عرفت أنّ المتبادر منه خصوص المتلبّس بالمبددون الأعمّ مع ملاحظة دليل التضادّ.
الثاني: عدم صحّة سلب المقتول والمضروب بملاحظة المعنى المرتكز فيالذهن عمّن انقضى عنه المبدأ، فيصحّ أن يقال: «بكر مضروب زيد» أو«مقتوله»، بدون رعاية علاقة، وعدم صحّة السلب علامة الحقيقة.
وفيه: أوّلاً: أنّ اسم المفعول خارج عن محلّ النزاع عند بعض الأجلّة