(صفحه 455)
أثرٌ ولا خبرٌ.
وإن أبيت أنّ مبدأ الاشتقاقي في الأمر بمعنى الطلب عبارة عن المادّةبوحدتها، ومبدأه في الأمر بمعنى الشيء مثلاً عبارة عن المادّة مع الهيئة.
قلنا: لا إشكال في البين؛ إذ اللفظ والمعنى متعدّد، وليس لفظ الأمر منالألفاظ المشتركة أيضاً.
(صفحه456)
في اعتبار العلو والاستعلاء
الجهة الثانية
في أنّ العلو والاستعلاء معتبر في معنى الأمر أم لا؟
ولابدّ قبل الورود في البحث من ذكر مقدّمتين:
إحداهما: أنّ الأمر لو كان بصورة المشترك اللفظي أو المعنوي بين المعنىالمشتقّ والجامد فالبحث ههنا في المعنى الاشتقاقي وأنّ المراد من الطلبالموضوع له هو الطلب المطلق أو الطلب من العالي، ولعلّ كلمة «في الجملة» فيالعبارة ناظرة إلى هذا كما مرّ.
وأمّا إذا قلنا: إنّ المعنى الاشتقاقي هو مفهوم اسمي جامع بين الهيئات ـ يعنيهيئة صيغة افعل ـ فالبحث يجري في أنّ المراد من المفهوم الاسمي المشترك بينالهيئات هو الهيئة المطلقة أو الهيئة الصادرة من العالي والمستعلي، فعلى كلالتقديرين يجري هذا البحث.
والثانية: أنّ العلو عبارة عن عظمة الشخص عند العقلاء؛ إذ العقلاء بما همعقلاء قائلون بلزوم الإطاعة وعظمة الأشخاص المخصوصة في الاجتماع مثلالأب والمولى والحاكم وإن كان غاصباً، ونرى أيضاً تبعيّتهم في ذلك عنالشرع من الأمر باتّباع العلماء والعرفاء والفقهاء.
وأمّا الاستعلاء فعبارة عن الاتّكاء بالعلو، ولكنّ المستعلي قد يكون واجداً
(صفحه 457)
للعلوّ حقيقة فيقال له: العالي المستعلي، وقد يكون فاقداً له حقيقةً فيقال له:السافل المستعلي.
إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في اعتبار العلوّ في معنى الأمر على ما هوالمتبادر من لفظ الأمر، ويشهد له الاستعمالات العرفيّة، فإنّه يقال: «أمر الوالدولده» و«أمر المولى عبده بكذا» إذا طلبا منهما شيئاً، ولا يقال: «إنّ العبد أمرمولاه» و«الابن أباه بكذا» حين طلبهما منهما شيئاً، وهكذا لا يقال: «إنّ المقلّدأمر مرجعه بكذا».
وقال صاحب الكفاية قدسسره (1) بعد قبول هذا الأمر: إنّ الظاهر عدم اعتبارالاستعلاء، فيكون الطلب من العالي أمراً ولو كان مستخفضاً لجناحه، وأمّاعتبار أحدهما ـ على سبيل منع الخلو ـ فضعيف. فطلب المساوي أو السافلمع الاستعلاء من العالي المستعلي لا يكون أمراً عنده.
وذكر المرحوم البروجردي قدسسره (2) في المقام مقدّمة صحيحة، ولكنّه استفادمنها مالا يساعده العرف، وهو قوله: «إنّ حقيقة الأمر بنفسه تغاير حقيقةالالتماس والدعاء». وهذا ممّا يساعده العرف، ويؤيّده الاستعمالات الشائعة،كما مرّ آنفاً.
ثمّ قال: إنّ الطلب بنفسه ينقسم إلى قسمين: الأوّل: الطلب الذي قصد فيهالطالب انبعاث المطلوب منه بنفس هذا الطلب؛ بحيث يكون داعيه ومحرّكه إلىالامتثال صرف هذا الطلب، وهذا القسم من الطلب يسمّى أمراً. القسم الثاني:هو الطلب الذي لم يقصد الطالب فيه انبعاث المطلوب منه بنفس الطلب، بل
- (2) نهاية الاُصول 1: 86 ـ 87 .
(صفحه458)
كان قصده انبعاث المطلوب منه بهذا الطلب منضمّـاً إلى بعض المقارنات التيتوجب وجود الداعي في نفسه كطلب المسكين من الغني؛ فإنّه لا يقصد انبعاثالغني بنفس طلبه وتحريكه لعلمه بعدم كفاية بعثه في تحرّك الغني، ولذا يقارنهببعض ماله دخل في انبعاث الغني كالتضرّع والدعاء لنفس الغني ووالديهـ مثلاً ـ وهذا القسم من الطلب يسمّى التماساً أو دعاء، فعلى هذا فحقيقةالطلب على قسمين، غاية الأمر أنّ القسم الأوّل منه ـ أي الذي يسمّى بالأمر حقّ مَن كان عالياً، ومع ذلك لو صدر عن السافل بالنسبة إلى العالي كان أمرأيضاً، ولكن يذمّه العقلاء على طلبه بالطلب الذي ليس شأناً له، كما أنّ القسمالثاني يناسب شأن السافل، ولو صدر عن العالي أيضاً لم يكن أمراً، فيقولون:لم يأمره بل التمس منه، ويرون هذا تواضعاً منه.
وفيه: أنّ للعلوّ ـ إذا كان ـ دخلاً في معنى الأمر، فما يصدر من السافل ليسبأمرٍ، وإذا لم يكن له دخل فيه فلِمَ لا يكون من حقّه وشأنه الطلب على النحوالمذكور؟! فتحقّق الأمر من السافل مع عدم كونه من حقّه متناقضان ليجتمعان، ولعلّه تخيّل أنّه لو كان للعلوّ دخل في معنى الأمر لابدّ حين تفسيرقولنا: «أنا آمرك بكذا» أن نقول: أطلب منك وأنا عالٍ، مع أنّه ليس كذلك؛ إذلا شبهة في دخالة إنسانيّة الآمر في معنى الأمر، وهكذا كون الطلب وجوبيّعلى ما هو التحقيق كما سيأتي، ولكن لا نقول في مقام تفسير القول المذكور:أطلب منك وأنا إنسان، أو أطلب منك طلباً وجوبيّاً؛ لأنّه لا ضرورة لذكرهذه الخصوصيّات.
فالتحقيق: أنّ الاستعلاء والعلوّ معاً معتبران في معنى الأمر، فإنّ الطلبالصادر من العالي إن كان بصورة الالتماس وعدم الاتّكاء بالعلو لا يطلق عليه
(صفحه 459)
الأمر، كما صرّح به قدسسره آنفاً.
قال المحقّق القمي(1) صاحب القوانين قدسسره : إنّ الاستعلاء عبارة عن تغليظالقول. ومن المعلوم أنّه مساوق للإيجاب والطلب الوجوبي.
ولا يخفى على أحدٍ مغايرة معنى الاستعلاء والإيجاب؛ إذ الإيجابوالاستحباب نوعان من الطلب، وأمّا الاستعلاء فهو الاتّكاء بالعلو ولو لميكن في الواقع عالياً، وهو يتحقّق بعدم تغليظ القول أيضاً. نعم، يمكن أنيكون في بعض الموارد تغليظ القول أمارةً للاستعلاء.
وقال بعض: إنّ أحد الأمرين على سبيل منع الخلو، إمّا علوّ الطالب واقعاً،وإمّا استعلاؤه كافٍ في صدق الأمر، واستدلّ لكفاية الاستعلاء في صدقه بأنّالعقلاء يقبّحون السافل المستعلي الذي يأمر العالي، ويذمّونه بأنّك لِمَ تأمرالعالي؟ فإطلاقهم الأمر على طلب السافل المستعلي يدلّ على كفاية استعلاءالطالب في صدق الأمر وعدم اعتبار العلو الواقعي فيه، وإلاّ يذمّونه بأنّك لِمَتستعلي على العالي.
وجوابه: أنّ التقبيح إنّما هو على استعلائه على العالي لا على أمره حتّىيقال: إنّ التقبيح على هذا الأمر يكشف عن عدم اعتبار العلوّ الواقعي فيصدقه، وإطلاق الأمر على طلبه في مقام توبيخه إنّما هو بحسب مقتضىاستعلائه، فإنّه يعلم أنّ للعلو دخلاً في الأمر، ويعلم أيضاً أنّه فاقدٌ لذلك، فلذيأمر السافل اتّكاءً على العلوّ الادعائي والتخيّلي، فيكون إطلاق الأمر علىطلب المستعلي السافل مجازاً؛ لمناسبته صورة الأمر الحقيقي، فلا يكفيالاستعلاء بدون العلوّ في صدق الأمر.
- (1) قوانين الاُصول 1: 81 .