(صفحه 469)
الشارع والعقلاء وإمّا لا يتحقّق، ولا يتصوّر فيه النقص والكمال.
وثانيهما: أنّ الوجوب والاستحباب هل يكونان من الاُمور الاعتباريّة أملا؟ ولا يخفى أن الطلب على قسمين: الطلب الحقيقي والإنشائي، وأمّا الطلبالحقيقي فإن قلنا بعدم الفرق بينه وبين الإرادة ـ كما قال به صاحب الكفاية قدسسره فهو من الأوصاف الحقيقيّة القائمة بالنفس كالعلم، لكنّه كان من أوصاف ذاتإضافة إلى الطالب والمطلوب، فهذا القسم من الطلب يكون من الاُمورالواقعيّة، إلاّ أنّ هذا ليس معنى الأمر، بل معناه عبارة عن الطلب الإنشائي،فإنّ الإنسان يوجد مفهوم الطلب بواسطة اللفظ في عالم الاعتبار كإنشاء البيعـ مثلاً ـ بواسطة اللفظ في عالم الاعتبار، فحينئذٍ كان الوجوب والاستحبابقسمين من الطلب الإنشائي.
والحاصل: أنّ الوجوب والاستحباب أمران اعتباريّان؛ لأنّهما قسمان منالطلب الإنشائي، فلا يكون التمايز بين الأمرين الاعتباريّين بالشدّة والضعفوالنقص والكمال.
وجوابه ـ بعد قبول أنّ الوجوب والاستحباب أمران اعتباريّان ـ : أنّ عدمقابليّة الاُمور الاعتباريّة للتشكيك ادّعاءٌ ليس له وجه صحيح وبرهان تامّ،فإنّا نرى بالوجدان بعد الدقّة في الاُمور الاعتباريّة أنّ التشكيك فيها متحقّق؛إذ البيع ـ مثلاً ـ قد يقع بين الطرفين الأصيلين فيعتبره الشارع والعقلاء، وقديقع فضولة فيعتبره الشارع والعقلاء أيضاً على القول بصحّته، فكلا البيعينأمران اعتباريّان، والتمايز بينهما بالشدّة والضعف، والنقص والكمال؛ لأنّ الأوّلبيع كامل لا يحتاج إلى الإجازة اللاحقة، وأمّا الثاني فبيع ناقص يحتاج إلىالإجازة اللاحقة من المالك، فإن ردّه يبطل من أصله، فلا شكّ في أنّ الأمر
(صفحه470)
الاعتباري يدور مدار الوجود والعدم، ولكنّ البحث في المقام لا يكون بينوجود الاعتبار وعدمه، بل البحث فيما يحقّق الاعتبارين كاعتبار بيع الفضوليوالأصيل، فإنّا نرى بعد المقايسة بينهما أنّ البيع الأصيل بيع كامل غير متوقّفعلى شيء، وأمّا البيع الفضولي فمع كونه صحيحاً ناقصٌ متوقّف على إجازةالمالك.
وقال المرحوم البروجردي قدسسره (1) في مقام الفرق بين الوجوب والاستحباببما ملخّصه: إنّ الامتياز بينهما باعتبار وجود المقارنات وعدمها؛ إذ الأمرالإنشائي قد يقترن بالمقارنات الشديدة ـ مثل ضرب الرجلين على الأرضوتحريك الرأس واليد حين الطلب ـ فينتزع منه الوجوب، وقد يقترنبالمقارنات الضعيفة ـ مثل أن يقول حين الطلب: وإن لم تفعل فلا جناحعليك ـ فينتزع منه الندب، وقد لا يقترن بشيء منها أصلاً فهو مختلف فيه، فمتنتزع منه حيثيّة الوجوب أو الندب هو نفس الأمر الإنشائي بلحاظمقارناته، ولا دخالة لذلك في نفس حقيقة الوجوب والندب، فيكون التشكيكفيهما بحسب المقارنات لا بحسب الذات، فليس للطلب بنفسه وبحسب الواقعمع قطع النظر عن المقارنات قسمان، بل هو أمر واحد تختلف أفراده باعتبار ميقترن به، فإنّ ما تنتزع منه حيثيّة الوجوب هو نفس الطلب الإنشائي المقترنبالمقارنات الشديدة أو الأعمّ منه ومن المجرّد، لا أنّ الوجوب شيء واقعييستعمل فيه الطلب الإنشائي ويكون المقارن قرينة عليه، وهكذا ما ينتزع منهالاستحباب.
وفيه أوّلاً: أنّه خلط بين مقام الثبوت والإثبات؛ لأنّ البحث عن التمايز
- (1) نهاية الاُصول 1: 101 ـ 102.
(صفحه 471)
والافتراق بين المفاهيم يرتبط بمقام الثبوت، وأمّا البحث في أنّه أين ينتزعالوجوب من صيغة «افعل» وأين لاينتزع يرتبط بمقام الإثبات، فالبحث فيمقام الفرق بين ماهيّة الوجوب والاستحباب لا في منشأ انتزاعهما وتحقّقهمبحسب الخارج، كالبحث عن الفرق بين ماهيّة البيع والإجارة، فإنّا لا نبحثفيه عن تحقّقهما خارجاً، وأنّ البيع ينتزع بواسطة بعتُ ـ مثلاً ـ أم لا، وهكذفي ما نحن فيه.
وثانياً: أنّه لا يستفاد من كلامه أنّ التمايز بينهما بأيّ نوع من الأنواع الأربعةالمذكورة ربّما يتوهّم أنّ التمايز عنده يكون بالعوارض الفرديّة والشخصيّة بعدالاشتراك في تمام الذات، لكنّه مدفوع بأنّ الوجوب والاستحباب ماهيّتانكلّيّتان، ولا يعقل فيهما التمايز بالخصوصيّات الفرديّة، فإنّ هذا النوع من التمايزيختصّ بأفراد ماهيّة واحدة في مرحلة الوجود الخارجي، ومع ذلك لايستفادمن كلامه ما هي الذات المشتركة بينهما جنساً وفصلاً.
فالتحقيق: أنّ التمايز بينهما بالنقص والكمال والشدّة والضعف ـ كما قال بهصاحب الكفاية قدسسره ـ فالنقص يكون فصلاً للاستحباب، والكمال للوجوب، معاشتراكهما في أصل حقيقة الطلب مثل وجود الكامل والناقص، فلا يصحّ مقال به المحقّق العراقي قدسسره (1) من أنّ الوجوب كان عين الطلب من دون زيادة،والاستحباب هو الطلب مع زيادة، فإنّ لازم التقسيم أن يكون كلّ قسم عبارةعن المقسم مع زيادة، فالتمسّك بالإطلاق لإثبات أن يكون مفاد الأمر هوالوجوب ليس بصحيح.
ومن هنا نرجع إلى أصل المسألة لتكميل البحث، وقد مرّ أنّهم ذكروا لكون
- (1) نهاية الأفكار: 160 ـ 163.
(صفحه472)
الأمر حقيقة في الوجوب أدّلة، وبقي منها ما اختاره بعض الأعلام وهو: أنّالعقل يدرك بمقتضى قضيّة العبوديّة والرقيّة لزوم الخروج عن عهدة ما أمر بهالمولى ما لم ينصب قرينة على الترخيص في تركه، فلو أمر بشيء ولم ينصبقرينة على جواز تركه فهو يحكم بوجوب إتيانه في الخارج، قضاء لحقّالعبوديّة، وأداءً لوظيفة المولويّة، وتحصيلاً للأمن من العقوبة.
وفيه: أنّ هذا الاستدلال مبتن على إثبات أنّ كلّ أوامر المولى يجب الإتيانبها، مع أنّ أمر المولى قد يكون واجب الإطاعة ولازم الإتيان، وقد لا يكونكذلك، فلا يستفاد من ذلك أنّ الأمر حقيقة في الوجوب، فالدليل الصحيحللمسألة هو التبادر. كما مرّ.
(صفحه 473)