(صفحه 477)
الناس فهو وإن توقّف على صدور لفظ من المنشئ أو ما بحكم اللفظ، ولا أثرلاعتباره إذا تجرّد عن المبرز من قول أو فعل، إلاّ أنّ الإمضاء المذكور متوقّفعلى صدور لفظ قصد به الإنشاء، وموضع البحث هو مفاد ذلك اللفظ الذيجيء به في مرحلة سابقة على الإمضاء، فالقول بالوجود الإنشائي للبيعـ مثلاً ـ قبل إمضائه من الشارع وتحقّقه في عالم الاعتبار لا أساس له.
ثمّ قال في مقام الحلّ: والصحيح أنّ الهيئات الإنشائيّة وضعت لإبراز أمر مّمن الاُمور النفسانيّة، وهذا الأمر النفساني قد يكون اعتباراً من الاعتباراتكما في الأمر والنهي والعقود والإيقاعات، وقد يكون صفة من الصفات كما فيالتمنّي والترجّي، فهيئات الجمل أمارات على أمر مّا من الاُمور النفسانيّة، وهوفي الجمل الخبريّة قصد الحكاية، وفي الجمل الإنشائيّة أمر آخر.
ثمّ إنّ الإتيان بالجملة المبرزة بوضعها لأمر نفساني قد يكون بداعي إبرازذلك الأمر، وقد يكون بداعي آخر سواه، وفي كون الاستعمال في هذا القسمالأخير مجازاً أو حقيقة كلام ليس هنا محلّ ذكره.
وجوابه: أوّلاً: أنّ إشكاله على المشهور ليس بصورة برهان منطقي دائر بينالنفي والإثبات، فإنّه يقول: لو كان منشأ الوجود الإنشائي العلقة الوضعيّة فهويعمّ الجمل الخبريّة والمفردات أيضاً، ولو لم يكن هذا منشأه فالوجود منحصرفي الوجود الحقيقي والاعتباري، وكلاهما أجنبيّ عن الوجود الإنشائي.
ولكن لقائل أن يقول: إنّه ما الدليل على انحصار الوجود بهذين النوعين؟
فلنا أن نقول: بأنّ هنا وجوداً ثالثاً يسمّى بالوجود الإنشائي.
وثانياً: لا شكّ في أنّه يجوز للبائع اعتبار الملكيّة والبيع قبل اعتبار الشارعوالعقلاء ـ يعني في المرحلة السابقة على الامضاء ـ وإلاّ لا معنى لإبراز ما في
(صفحه478)
نفسه باللفظ، فنحن نقول بالوجود الإنشائي في هذه المرحلة، وأنّ البيع الذياعتبره البائع في نفسه يوجد بلفظ «بعت»، ولكنّه ربّما يكون منشأ لاعتبارالشارع والعقلاء، وربّما لا يكون منشأ لاعتبارهما كالمعاملة الفاسدة عندهما،فيتحقّق الوجود الإنشائي فيها أيضاً، ولكن لا يترتّب عليها الأثر المقصود عندالعقلاء والشارع.
وثالثاً: لا نسلّم أن تكون الألفاظ بعنوان الأمارة والمبرز لما تحقّق فيالنفس، بل يتحقّق البيع ونحوه بنفس اللفظ، ولا يكون ما اعتبره البائع فينفسه بيعاً، ويشهد له الوجدان والعقلاء من المتشرّعة، وغيره.
على أنّ الأمارة لا موضوعيّة لها، بل هي طريق وكاشفة عن الواقع للشاكّ،فإذا علم أنّ الزوجة في نفسها اعتبرت الزوجيّة فهل يمكن الالتزام بأنّه قدتحقّقت الزوجيّة ولا احتياج إلى اللفظ المبرز؟ فالتحقيق أنّ الاُمور الاعتباريّةوبعض المفاهيم ـ مثل الطلب ـ يوجد بالقول، ونسمّي هذا الإيجاد بالوجودالإنشائي، كما قال به المشهور.
والمحقّق الخراساني قدسسره (1) بعد القول بأنّ المراد من الطلب الذي يكون معنىالأمر هو الطلب الإنشائي لا الطلب الحقيقي، قال: ولو أبيت إلاّ عن كونهموضوعاً للطلب ـ أي الجامع بين الحقيقي والإنشائي ـ فلا أقلّ من كونهمنصرفاً إلى الإنشائي منه عند إطلاقه كما هو الحال في لفظ الطلب أيضاً، وذلكلكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائي، كما أنّ الأمر في لفظ الإرادة على عكسلفظ الطلب، والمنصرف منها عند إطلاقهما هي الإرادة الحقيقيّة، واختلافهما فيذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين
(صفحه 479)
الطلب والإرادة، خلافاً لقاطبة أهل الحقّ والمعتزلة.
ولكن لابدّ لنا من ذكر مقدّمة لتحقيق المسألة وهي: أنّ المسائل الاعتقاديّةـ مثل وجود الصانع وصفاته الثبوتيّة والسلبيّة والمعاد وأمثال ذلك ـ كانتمحلاًّ للبحث والنزاع من القرون المتمادية قبل الإسلام بين الناس، وأمّا بعدظهور الإسلام ونزول القرآن فقد ظهر للمسلمين رؤوس المسائل الاعتقاديّةكمقام الربوبيّة والخالقيّة وسائر صفاته تعالى، والمبدأ والمعاد وغير ذلك، وأمّبعد استقرار الحكومة الإسلاميّة ووقوع حروب مكرّرة بين المسلمينوالكفّار، وإسارة بعض علمائهم، ومعاشاتهم معهم، وإلقاء اعتقاداتهم بينهم،وإسلام بعضهم على الظاهر، ونفوذ نظريّاتهم الخاصّة بينهم، فقد جعل بعضنظريّاتهم محلاًّ للبحث.
على أنّ ارتباط الخلفاء بالحكّام الكفّار وتبادل السفراء بينهم وانعقادالمعاهدات بينهم ـ مثل انعقاد المعاهدة بين معاوية وحاكم الروم(1) ـ أوجبوقوع المسلمين في جريان اعتقاداتهم.
والمهمّ من ذلك أنّ اندحار الكفّار ـ بالأخصّ اليهود والنصارى ـ وذلّتهم فيزمن حياة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بيد المسلمين وعدم تسليمهم مع ذلك في مقابلالإسلام من حيث الاعتقاد يوجب القطع بأنّهم كانوا دخلاء في انحرافالخلافة عن مسيرها الأصلي، بل نرى تسلّط أياديهم وعمّالهم على المقاماتالعاليّة من الحكومة الإسلاميّة ومشاورة الخلفاء لهم في الاُمور المهمّة، ويشهدعلى ذلك مصاحبة معاوية ومشاورته لـ «سرجون» النصراني وابنه منصوروحضورهما في المقامات العالية، مثل أمارة الماليّات وأرزاق العساكر،
(صفحه480)
كما صرّح به ابن الأثير في تأريخه، بأنّ «سرجون» الرومي كان كاتبهوصاحب أمره(1).
وفي مقتل الخوارزمي: أنّ يزيد نصب عبيداللّه بن زياد أميراً على الكوفةبمشاورة «سرجون» الذي ينتهي إلى شهادة الحسين بن عليّ عليهماالسلام وقتل أهلبيته وأصحابه، وأسر نسائه ويتاماه من بلدٍ إلى بلد(2)، بل كان تشكيلالسقيفة وغصب الخلافة من أمير المؤمنين عليهالسلام بمشاورة عقول وأفكار اليهودوأمرهم، مثل كعب الأحبار اليهودي وأمثاله، كما قرّره السيّد الشهيد «رضپاكنژاد» في كتابه المسمّى باسم «مظلوم گم شده در سقيفه»، فمن علل المهمّةفي تفرّق المسلمين والاختلاف والتحزّب بينهم نفوذ أيادي اليهود والنصارىوعمّالهم واعتقاداتهم في بيت الخلافة، وانقطاع الخلافة من معدن الوحيوالرسالة، يعني الأئمّة المعصومين عليهمالسلام ، ويؤيّده تشكيل المذهب الضال الوهّابيفي زماننا هذا.
وأمّا الأشاعرة والمعتزلة فكانوا فريقين من المسلمين، وسبب تشكيلهم أنّالحسن البصري الذي كان من الاُسراء ظاهراً، لمّا كان من علماء زمانه ومنفضلاء المسلمين على الظاهر اجتمع حوله عدّة من الناس لاستماع نظريّاته فيالمسائل الاعتقاديّة، ومن تلامذته واصل بن عطا، وهو بعد البحث والنزاع معاُستاذه في جلسة درسه خرج واعتزل مجلسه، فهو وأتباعه بعد ذلك شكّلجلسة مستقلّة في مقابل اُستاذه سمّوا بالمعتزلة.
وكان أيضاً من تلامذة الحسن البصري أبو الحسن الأشعري الذي كان من
- (1) الكامل في التأريخ 4: 11.
(صفحه 481)
أصلاب أبي موسى الأشعري المعروف، وهو كان مجدّاً في إشاعة نظريّاتاُستاذه، ومشوّقاً للناس إلى الاشتراك في جلسته ومجلس درسه، ولذا سمّي هووأتباعه بالأشاعرة، وكان لكلّ منهما نظراً مخالفاً للآخر في أكثر المسائل.
وأوّل ما اختلف فيه الفريقان كان عبارةً من أنّ القرآن الكريم قديمٌ أوحادث، ومنشأ هذا الاختلاف هو إطلاق عنوان كلام اللّه عليه بين المتشرّعةمن صدر الإسلام إلى الآن.
على أنّه نسب إليه تعالى في بعض آيات القرآن أيضاً عنوان التكلّموالتكليم، مثل قوله تعالى: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا»(1)، ويستفاد من ذلكأنّ إطلاق المتكلّم عليه تعالى لاينافي مع الشرع والقرآن، كما أنّه صحيح عندكلا الفريقين.
ثمّ إنّ أوصافه تعالى على نوعين:
أحدهما: ما يعبّر عنه بالأوصاف الذاتيّة، وهي قائمة بذاته الواجبة، وقديمةبقدمها، وثبوتها للذات لا يحتاج إلى شأن خاصّ وشخص خاصّ وحالةمخصوصة، كالعلم والقدرة والحياة، فإنّها من الصفات الذاتيّة التي لايحتاجثبوتها إلى شيء من الأشياء، ولذا نقول: «أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ»، «إِنَّ اللَّهَعَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ».
وثانيهما: ما يعبّر عنه بالأوصاف الفعليّة، وهي تختلف بالنسبة إلىالحالات والموارد والأشخاص والأزمنة، مثل صفة الخالقيّة والرازقيّةوأمثالها، فإنّه تعالى قادرٌ على كلّ شيء، ولكنّ كلّ مقدور لا يتحقّق وليصدر عنه في مقام العمل، فلذا يقول: «وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى