(صفحه482)
الرِّزْقِ»(1)، فهذه الأوصاف تكون حادثة، فإنّ زيداً ـ مثلاً ـ خلق اليوم مع أنّهلم يخلق في الأمس.
ثمّ اختلفت الأشاعرة والمعتزلة في أنّ صفة التكلّم هل تكون من صفاتهالذاتيّة أو من صفاته الفعليّة، وذهبت المعتزلة إلى أنّ إطلاق المتكلّم على اللّهتعالى يكون بنحو إطلاقه على الإنسان، بأنّ كلام الإنسان حين التكلّم عبارةعن إيجاد المتكلّم أصواتاً متدرّجة، وكلّ صوت متكئ على مخرج من مخارجالفم ومقطع من مقاطعه، ويستمعها المخاطب أيضاً متدرّجة، وهكذا كلامهتعالى، إلاّ أنّ اللّه تعالى بلحاظ تجرّده وعدم كونه جسماً يوجد الأصوات فيموجود آخر بنحو التدريج والتدرّج، مثل إيجاده تعالى الأصوات في الشجرة،وقوله بعده: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا»، ومثل إيجاده تعالى الأصوات فيالحصاة وشهادته برسالة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله حين هبوطه على جبل حراء، فلا فرقبين كلامه تعالى وكلام الإنسان من حيث الماهيّة والكيفيّة، وهذا موافق لنظرالمتكلّمين من الإماميّة، فتكون صفة التكلّم على هذا القول من صفاته الفعليّةومن الاُمور الحادثة.
وذهبت الأشاعرة إلى أنّ كلامه تعالى من الصفات الذاتيّة، وقائم بذاتهالواجبة وقديم بقدمه تعالى، مثل العلم والحياة والقدرة وأمثال ذلك، ولأجلذلك قد اضطرّوا إلى الالتزام بأنّه كانت لذاته تعالى صفة وواقعيّة باسم الكلامالنفسي، أي ما وراء الكلام اللفظي، فالقرآن هو الكلام النفسي القائم بالذاتبالقيام الحلولي. فكما أنّه يطلق العالم عليه تعالى مع كونه من صفاته الذاتيّةوالقديمة كذلك يطلق على الإنسان، مع أنّ علمه محدود وحادث، وهكذا القادر
(صفحه 483)
ونحوه، ويجري هذا المعنى بعينه في الكلام النفسي، فإنّه إذا لوحظ بالنسبة إلىذات الباري يتحقّق فيه ويكون من الأوصاف الذاتيّة والقديمة، وأمّا إذا لوحظإلى الإنسان والجمل الخبريّة مثل «جاء زيد من السفر» فيتحقّق وراءالألفاظ، وعلم المتكلّم بالمعنى المذكور أمراً نفسانيّاً آخر والذي نعبّر عنهبالكلام النفسي، وهكذا في الجمل الإنشائيّة إلاّ أنّها إذا اشتملت على الأمريكون للكلام النفسي المتحقّق فيها اسم خاصّ وهو الطلب، وإذا اشتملت علىالنهي وكانت ماهيّة النهي عبارة عن الزجر لا طلب الترك يكون للكلامالنفسي المتحقّق فيها اسم خاصّ آخر، وهو الزجر، وأمّا الجمل الإنشائيّةالمشتملة على العقود والإيقاعات والتمنّي والترجّي لا يكون للكلام النفسيالمتحقّق فيها اسم خاصّ.
وحكى الإمام قدسسره في رسالة الطلب والإرادة عن بعض أهل التحقيق: أنّإطلاق المتكلّم على اللّه تعالى يكون بنحو إطلاقه على الإنسان، بلا فرق بينهمأصلاً، إلاّ أنّ الإنسان يتكلّم بالفم واللسان، وهو تعالى يوجد الكلام من دونآلة ومن دون واسطة، ويؤيّده تكلّمه تعالى مع موسى بقوله: «وَمَا تِلْكَبِيَمِينِكَ يَـمُوسَى * قَالَ هِىَ عَصَـاىَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَ لِىَفِيهَا مَـءَارِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَـمُوسَى»(1).
ثمّ إنّ الإمام قدسسره بعد نفي هذه الأقوال اختار في المسألة قولاً آخر، ومحصّله:أنّ كلام اللّه سبحانه عبارة عن الوحي، فإنّ إنزال القرآن وسائر الكتب إلىالأنبياء والمرسلين عليهمالسلام لا يكون بصورة إيجاد الكلام في شيء آخر قطعاً، كمأنّه لا يكون بصورة تكلّمه تعالى مع موسى عليهالسلام أيضاً ولا بما ذهب إليه
(صفحه484)
الأشاعرة؛ إذ القيام الحلولي مستلزمٌ للقوّة والنقص والتركيب، تعالى عنه، كمأنّ خلوّ الذات عن صفات الكمال مستلزمٌ لذلك.
نعم، أنّه تعالى متكلّم بوجه آخر حتّى في مرتبة ذاته يعرفه الراسخون فيالحكمة، فكلامه تعالى عبارة عن الوحي، وأمّا حقيقة الوحي وكيفيّته ممّا لميصل إليها فكر البشر إلاّ الأوحدي الراسخ في العلم بقوّة البرهان المشفوع إلىالرياضات ونور الإيمان، وقد أشار إلى بعض أسراها قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِالرُّوحُ الاْءَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ»(1)، وقوله تعالى: «إِنْ هُوَإِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى * عَلَّمَهُو شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَ هُوَ بِالاْءُفُقِالاْءَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَىآ إِلَى عَبْدِهِىمَآ أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىآ»(2). وأفهام أصحاب الكلام من المعتزلةوالأشاعرة بعيدة عن طور هذا الكلام والإعراض عنه أولى. فالتحقيق أنّالحقّ مع الإمام قدسسره .في اتّحاد الطلب والإرادة وعدمه
اتّحاد الطلب والإرادة وعدمه
ولكن لابدّ لنا من ذكر محلّ النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة قبل بياناستدلالهما في المقام؛ لدفع ما ذكره صاحب الكفاية قدسسره بعنوان محلّ النزاعوالمصالحة بينهما، ومحصّل كلامه: أنّ الحقّ هو اتّحاد الطلب والإرادة، بمعنى أنّلفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكونبإزاء الآخر، والطلب المنشئ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائيّة.
وبالجملة، هما متّحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً، لا أنّ الطلب الإنشائي
(صفحه 485)
الذي هو المنصرف إليه إطلاقه ـ كما عرفت ـ متّحد مع الإرادة الحقيقيّة التيينصرف إليها إطلاقها أيضاً، فيكون لفظا الطلب والإرادة من الألفاظ المترادفةكالإنسان والبشر، ولازم الترادف اتّحاد المعنى في جميع المراحل والمراتب منالوجود الحقيقي والإنشائي والذهني، فلا فرق بينهما إلاّ في مقام الانصراف،ولكنّه لاينافي الترادف كما لا يخفى.
والأشاعرة لا محالة تقول على هذا البيان: إنّ الطلب والإرادة لفظانمتغايران، وكان لهما معنيان.
فحاصل النزاع: أنّ المعتزلة تقول: الطلب موضوع لما وضع له لفظ الإرادة،والأشاعرة تقول: الطلب موضوع لغير ما وضع له لفظ الإرادة.
ومن المعلوم أنّ النزاع بهذه الكيفيّة يكون نزاعاً لغويّاً، مثل نزاع الفقهاء فيأنّ المراد من لفظ الصعيد هل هو التراب الخالص أو مطلق وجه الأرض؟ ولشكّ في أنّ هذا بعيد عن محلّ النزاع والاختلاف بين الأشاعرة والمعتزلة، فإنّالنزاع بينهما يدور مدار تحقّق صفة من الأوصاف الواقعيّة وراء الصفاتالثبوتيّة وعدمه، ولا يكون لترادف لفظي الطلب والإرادة وعدمه دخلٌ فيذلك، والقول بالترادف لا يسلتزم بطلان الكلام النفسي، كما أنّ القول بعدمالترادف لا يستلزم ثبوت الكلام النفسي.
وأبعد من ذلك ما قال به في مقام التصالح بين المتخاصمين من أنّه يقعالصلح بين الطرفين بأن يكون مراد المعتزلة من اتّحاد الطلب والإرادة اتّحادهممفهوماً ومصداقاً وإنشاءً، بمعنى أنّهما متّحدان مع وحدة المرتبة بحيث يكونكلّ منهما عين الآخر في تلك المرتبة، ومراد الأشاعرة من المغايرة تغايرهما معاختلاف المرتبة كالطلب الإنشائي والإرادة الحقيقيّة، فإنّهما متغايران ولا
(صفحه486)
يتّحدان أصلاً، وبهذا الوجه يقع الصلح بينهما ويصير النزاع لفظيّاً.
ومن البديهي أنّ التصالح وعنوان محلّ النزاع بهذه الكيفيّة بعيد بمراحل عنمحلّ النزاع بين الفريقين، بل هو أقوى شاهد على عدم التفاته إلى كنه نزاعهما،فإنّ الأشاعرة تدّعي تحقّق صفة الواقعيّة القائمة على الذات بالقيام الحلولي،والمعتزلة تنكره، فلا دخل للألفاظ والتعابير في هذا النزاع، ولا يمكن المصالحةبينهما أصلاً، فالنزاع جارٍ ولو قلنا باتّحاد الطلب والإرادة في مرتبة واحدة.
فلابدّ لنا في تنقيح البحث ومحلّ النزاع من ملاحظة أدّلة الطرفين.
ومن أدلّة الأشاعرة أنّه إذا أخبر المخبر بأنّه «جاء زيدٌ من السفر» فلا شكّفي اتّصاف هذه الجملة بالخبريّة، سواء كان المخبر عالماً بمطابقة المخبر به معالواقع أم شاكّاً، أم عالماً بمخالفة المخبر به مع الواقع، ولا يشترط فيه علم المخبربمطابقة المخبر به مع الواقع، كما أنّه لا دخل لحالات المستمع من العلم والشكّفيه، ولا يوجب علمه بكذب المتكلّم خروج الجملة عن الاتّصاف بالخبريّة،فإنّ ما يقال من أنّ الخبر يحتمل الصدق والكذب فهو باعتبار ذات الخبر معقطع النظر عن علم المتكلّم وجهله، أي من شأنه احتمال الصدق والكذب.
ثمّ استدلّ بأنّه لابدّ في الجمل الخبريّة من الحكاية عن الواقعيّة النفسانيّة،فإن كانت هي عبارة عن العلم والتصديق بثبوت مخبر به فهو لا يتحقّق إلاّ فيصورة واحدة من الصور الثلاثة، فنكشف من ذلك تحقّق الصفة النفسانيّة التينعبّر عنه بالكلام النفسي في جميع الصور المذكورة، وكما أنّ ألفاظ الجملة فيالاتّصاف بالخبريّة لا يكون مشروطاً بشرط في الصور الثلاثة كذلك تتحقّقصفة نفسانيّة اُخرى وراء العلم في الصور الثلاثة، بلا فرق بين علم المتكلّمبمطابقة خبره مع الواقع وشكّه وعلمه بمخالفة خبره معه، فتتحقّق للواقعيّةالخارجيّة ثلاث حالات، وأمّا الواقعيّة النفسانيّة فتتحقّق حتّى للكاذب، فلابدّ