(صفحه 479)
الطلب والإرادة، خلافاً لقاطبة أهل الحقّ والمعتزلة.
ولكن لابدّ لنا من ذكر مقدّمة لتحقيق المسألة وهي: أنّ المسائل الاعتقاديّةـ مثل وجود الصانع وصفاته الثبوتيّة والسلبيّة والمعاد وأمثال ذلك ـ كانتمحلاًّ للبحث والنزاع من القرون المتمادية قبل الإسلام بين الناس، وأمّا بعدظهور الإسلام ونزول القرآن فقد ظهر للمسلمين رؤوس المسائل الاعتقاديّةكمقام الربوبيّة والخالقيّة وسائر صفاته تعالى، والمبدأ والمعاد وغير ذلك، وأمّبعد استقرار الحكومة الإسلاميّة ووقوع حروب مكرّرة بين المسلمينوالكفّار، وإسارة بعض علمائهم، ومعاشاتهم معهم، وإلقاء اعتقاداتهم بينهم،وإسلام بعضهم على الظاهر، ونفوذ نظريّاتهم الخاصّة بينهم، فقد جعل بعضنظريّاتهم محلاًّ للبحث.
على أنّ ارتباط الخلفاء بالحكّام الكفّار وتبادل السفراء بينهم وانعقادالمعاهدات بينهم ـ مثل انعقاد المعاهدة بين معاوية وحاكم الروم(1) ـ أوجبوقوع المسلمين في جريان اعتقاداتهم.
والمهمّ من ذلك أنّ اندحار الكفّار ـ بالأخصّ اليهود والنصارى ـ وذلّتهم فيزمن حياة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بيد المسلمين وعدم تسليمهم مع ذلك في مقابلالإسلام من حيث الاعتقاد يوجب القطع بأنّهم كانوا دخلاء في انحرافالخلافة عن مسيرها الأصلي، بل نرى تسلّط أياديهم وعمّالهم على المقاماتالعاليّة من الحكومة الإسلاميّة ومشاورة الخلفاء لهم في الاُمور المهمّة، ويشهدعلى ذلك مصاحبة معاوية ومشاورته لـ «سرجون» النصراني وابنه منصوروحضورهما في المقامات العالية، مثل أمارة الماليّات وأرزاق العساكر،
(صفحه480)
كما صرّح به ابن الأثير في تأريخه، بأنّ «سرجون» الرومي كان كاتبهوصاحب أمره(1).
وفي مقتل الخوارزمي: أنّ يزيد نصب عبيداللّه بن زياد أميراً على الكوفةبمشاورة «سرجون» الذي ينتهي إلى شهادة الحسين بن عليّ عليهماالسلام وقتل أهلبيته وأصحابه، وأسر نسائه ويتاماه من بلدٍ إلى بلد(2)، بل كان تشكيلالسقيفة وغصب الخلافة من أمير المؤمنين عليهالسلام بمشاورة عقول وأفكار اليهودوأمرهم، مثل كعب الأحبار اليهودي وأمثاله، كما قرّره السيّد الشهيد «رضپاكنژاد» في كتابه المسمّى باسم «مظلوم گم شده در سقيفه»، فمن علل المهمّةفي تفرّق المسلمين والاختلاف والتحزّب بينهم نفوذ أيادي اليهود والنصارىوعمّالهم واعتقاداتهم في بيت الخلافة، وانقطاع الخلافة من معدن الوحيوالرسالة، يعني الأئمّة المعصومين عليهمالسلام ، ويؤيّده تشكيل المذهب الضال الوهّابيفي زماننا هذا.
وأمّا الأشاعرة والمعتزلة فكانوا فريقين من المسلمين، وسبب تشكيلهم أنّالحسن البصري الذي كان من الاُسراء ظاهراً، لمّا كان من علماء زمانه ومنفضلاء المسلمين على الظاهر اجتمع حوله عدّة من الناس لاستماع نظريّاته فيالمسائل الاعتقاديّة، ومن تلامذته واصل بن عطا، وهو بعد البحث والنزاع معاُستاذه في جلسة درسه خرج واعتزل مجلسه، فهو وأتباعه بعد ذلك شكّلجلسة مستقلّة في مقابل اُستاذه سمّوا بالمعتزلة.
وكان أيضاً من تلامذة الحسن البصري أبو الحسن الأشعري الذي كان من
- (1) الكامل في التأريخ 4: 11.
(صفحه 481)
أصلاب أبي موسى الأشعري المعروف، وهو كان مجدّاً في إشاعة نظريّاتاُستاذه، ومشوّقاً للناس إلى الاشتراك في جلسته ومجلس درسه، ولذا سمّي هووأتباعه بالأشاعرة، وكان لكلّ منهما نظراً مخالفاً للآخر في أكثر المسائل.
وأوّل ما اختلف فيه الفريقان كان عبارةً من أنّ القرآن الكريم قديمٌ أوحادث، ومنشأ هذا الاختلاف هو إطلاق عنوان كلام اللّه عليه بين المتشرّعةمن صدر الإسلام إلى الآن.
على أنّه نسب إليه تعالى في بعض آيات القرآن أيضاً عنوان التكلّموالتكليم، مثل قوله تعالى: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا»(1)، ويستفاد من ذلكأنّ إطلاق المتكلّم عليه تعالى لاينافي مع الشرع والقرآن، كما أنّه صحيح عندكلا الفريقين.
ثمّ إنّ أوصافه تعالى على نوعين:
أحدهما: ما يعبّر عنه بالأوصاف الذاتيّة، وهي قائمة بذاته الواجبة، وقديمةبقدمها، وثبوتها للذات لا يحتاج إلى شأن خاصّ وشخص خاصّ وحالةمخصوصة، كالعلم والقدرة والحياة، فإنّها من الصفات الذاتيّة التي لايحتاجثبوتها إلى شيء من الأشياء، ولذا نقول: «أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ»، «إِنَّ اللَّهَعَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ».
وثانيهما: ما يعبّر عنه بالأوصاف الفعليّة، وهي تختلف بالنسبة إلىالحالات والموارد والأشخاص والأزمنة، مثل صفة الخالقيّة والرازقيّةوأمثالها، فإنّه تعالى قادرٌ على كلّ شيء، ولكنّ كلّ مقدور لا يتحقّق وليصدر عنه في مقام العمل، فلذا يقول: «وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى
(صفحه482)
الرِّزْقِ»(1)، فهذه الأوصاف تكون حادثة، فإنّ زيداً ـ مثلاً ـ خلق اليوم مع أنّهلم يخلق في الأمس.
ثمّ اختلفت الأشاعرة والمعتزلة في أنّ صفة التكلّم هل تكون من صفاتهالذاتيّة أو من صفاته الفعليّة، وذهبت المعتزلة إلى أنّ إطلاق المتكلّم على اللّهتعالى يكون بنحو إطلاقه على الإنسان، بأنّ كلام الإنسان حين التكلّم عبارةعن إيجاد المتكلّم أصواتاً متدرّجة، وكلّ صوت متكئ على مخرج من مخارجالفم ومقطع من مقاطعه، ويستمعها المخاطب أيضاً متدرّجة، وهكذا كلامهتعالى، إلاّ أنّ اللّه تعالى بلحاظ تجرّده وعدم كونه جسماً يوجد الأصوات فيموجود آخر بنحو التدريج والتدرّج، مثل إيجاده تعالى الأصوات في الشجرة،وقوله بعده: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا»، ومثل إيجاده تعالى الأصوات فيالحصاة وشهادته برسالة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله حين هبوطه على جبل حراء، فلا فرقبين كلامه تعالى وكلام الإنسان من حيث الماهيّة والكيفيّة، وهذا موافق لنظرالمتكلّمين من الإماميّة، فتكون صفة التكلّم على هذا القول من صفاته الفعليّةومن الاُمور الحادثة.
وذهبت الأشاعرة إلى أنّ كلامه تعالى من الصفات الذاتيّة، وقائم بذاتهالواجبة وقديم بقدمه تعالى، مثل العلم والحياة والقدرة وأمثال ذلك، ولأجلذلك قد اضطرّوا إلى الالتزام بأنّه كانت لذاته تعالى صفة وواقعيّة باسم الكلامالنفسي، أي ما وراء الكلام اللفظي، فالقرآن هو الكلام النفسي القائم بالذاتبالقيام الحلولي. فكما أنّه يطلق العالم عليه تعالى مع كونه من صفاته الذاتيّةوالقديمة كذلك يطلق على الإنسان، مع أنّ علمه محدود وحادث، وهكذا القادر
(صفحه 483)
ونحوه، ويجري هذا المعنى بعينه في الكلام النفسي، فإنّه إذا لوحظ بالنسبة إلىذات الباري يتحقّق فيه ويكون من الأوصاف الذاتيّة والقديمة، وأمّا إذا لوحظإلى الإنسان والجمل الخبريّة مثل «جاء زيد من السفر» فيتحقّق وراءالألفاظ، وعلم المتكلّم بالمعنى المذكور أمراً نفسانيّاً آخر والذي نعبّر عنهبالكلام النفسي، وهكذا في الجمل الإنشائيّة إلاّ أنّها إذا اشتملت على الأمريكون للكلام النفسي المتحقّق فيها اسم خاصّ وهو الطلب، وإذا اشتملت علىالنهي وكانت ماهيّة النهي عبارة عن الزجر لا طلب الترك يكون للكلامالنفسي المتحقّق فيها اسم خاصّ آخر، وهو الزجر، وأمّا الجمل الإنشائيّةالمشتملة على العقود والإيقاعات والتمنّي والترجّي لا يكون للكلام النفسيالمتحقّق فيها اسم خاصّ.
وحكى الإمام قدسسره في رسالة الطلب والإرادة عن بعض أهل التحقيق: أنّإطلاق المتكلّم على اللّه تعالى يكون بنحو إطلاقه على الإنسان، بلا فرق بينهمأصلاً، إلاّ أنّ الإنسان يتكلّم بالفم واللسان، وهو تعالى يوجد الكلام من دونآلة ومن دون واسطة، ويؤيّده تكلّمه تعالى مع موسى بقوله: «وَمَا تِلْكَبِيَمِينِكَ يَـمُوسَى * قَالَ هِىَ عَصَـاىَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَ لِىَفِيهَا مَـءَارِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَـمُوسَى»(1).
ثمّ إنّ الإمام قدسسره بعد نفي هذه الأقوال اختار في المسألة قولاً آخر، ومحصّله:أنّ كلام اللّه سبحانه عبارة عن الوحي، فإنّ إنزال القرآن وسائر الكتب إلىالأنبياء والمرسلين عليهمالسلام لا يكون بصورة إيجاد الكلام في شيء آخر قطعاً، كمأنّه لا يكون بصورة تكلّمه تعالى مع موسى عليهالسلام أيضاً ولا بما ذهب إليه