(صفحه484)
الأشاعرة؛ إذ القيام الحلولي مستلزمٌ للقوّة والنقص والتركيب، تعالى عنه، كمأنّ خلوّ الذات عن صفات الكمال مستلزمٌ لذلك.
نعم، أنّه تعالى متكلّم بوجه آخر حتّى في مرتبة ذاته يعرفه الراسخون فيالحكمة، فكلامه تعالى عبارة عن الوحي، وأمّا حقيقة الوحي وكيفيّته ممّا لميصل إليها فكر البشر إلاّ الأوحدي الراسخ في العلم بقوّة البرهان المشفوع إلىالرياضات ونور الإيمان، وقد أشار إلى بعض أسراها قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِالرُّوحُ الاْءَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ»(1)، وقوله تعالى: «إِنْ هُوَإِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى * عَلَّمَهُو شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَ هُوَ بِالاْءُفُقِالاْءَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَىآ إِلَى عَبْدِهِىمَآ أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىآ»(2). وأفهام أصحاب الكلام من المعتزلةوالأشاعرة بعيدة عن طور هذا الكلام والإعراض عنه أولى. فالتحقيق أنّالحقّ مع الإمام قدسسره .في اتّحاد الطلب والإرادة وعدمه
اتّحاد الطلب والإرادة وعدمه
ولكن لابدّ لنا من ذكر محلّ النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة قبل بياناستدلالهما في المقام؛ لدفع ما ذكره صاحب الكفاية قدسسره بعنوان محلّ النزاعوالمصالحة بينهما، ومحصّل كلامه: أنّ الحقّ هو اتّحاد الطلب والإرادة، بمعنى أنّلفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكونبإزاء الآخر، والطلب المنشئ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائيّة.
وبالجملة، هما متّحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً، لا أنّ الطلب الإنشائي
(صفحه 485)
الذي هو المنصرف إليه إطلاقه ـ كما عرفت ـ متّحد مع الإرادة الحقيقيّة التيينصرف إليها إطلاقها أيضاً، فيكون لفظا الطلب والإرادة من الألفاظ المترادفةكالإنسان والبشر، ولازم الترادف اتّحاد المعنى في جميع المراحل والمراتب منالوجود الحقيقي والإنشائي والذهني، فلا فرق بينهما إلاّ في مقام الانصراف،ولكنّه لاينافي الترادف كما لا يخفى.
والأشاعرة لا محالة تقول على هذا البيان: إنّ الطلب والإرادة لفظانمتغايران، وكان لهما معنيان.
فحاصل النزاع: أنّ المعتزلة تقول: الطلب موضوع لما وضع له لفظ الإرادة،والأشاعرة تقول: الطلب موضوع لغير ما وضع له لفظ الإرادة.
ومن المعلوم أنّ النزاع بهذه الكيفيّة يكون نزاعاً لغويّاً، مثل نزاع الفقهاء فيأنّ المراد من لفظ الصعيد هل هو التراب الخالص أو مطلق وجه الأرض؟ ولشكّ في أنّ هذا بعيد عن محلّ النزاع والاختلاف بين الأشاعرة والمعتزلة، فإنّالنزاع بينهما يدور مدار تحقّق صفة من الأوصاف الواقعيّة وراء الصفاتالثبوتيّة وعدمه، ولا يكون لترادف لفظي الطلب والإرادة وعدمه دخلٌ فيذلك، والقول بالترادف لا يسلتزم بطلان الكلام النفسي، كما أنّ القول بعدمالترادف لا يستلزم ثبوت الكلام النفسي.
وأبعد من ذلك ما قال به في مقام التصالح بين المتخاصمين من أنّه يقعالصلح بين الطرفين بأن يكون مراد المعتزلة من اتّحاد الطلب والإرادة اتّحادهممفهوماً ومصداقاً وإنشاءً، بمعنى أنّهما متّحدان مع وحدة المرتبة بحيث يكونكلّ منهما عين الآخر في تلك المرتبة، ومراد الأشاعرة من المغايرة تغايرهما معاختلاف المرتبة كالطلب الإنشائي والإرادة الحقيقيّة، فإنّهما متغايران ولا
(صفحه486)
يتّحدان أصلاً، وبهذا الوجه يقع الصلح بينهما ويصير النزاع لفظيّاً.
ومن البديهي أنّ التصالح وعنوان محلّ النزاع بهذه الكيفيّة بعيد بمراحل عنمحلّ النزاع بين الفريقين، بل هو أقوى شاهد على عدم التفاته إلى كنه نزاعهما،فإنّ الأشاعرة تدّعي تحقّق صفة الواقعيّة القائمة على الذات بالقيام الحلولي،والمعتزلة تنكره، فلا دخل للألفاظ والتعابير في هذا النزاع، ولا يمكن المصالحةبينهما أصلاً، فالنزاع جارٍ ولو قلنا باتّحاد الطلب والإرادة في مرتبة واحدة.
فلابدّ لنا في تنقيح البحث ومحلّ النزاع من ملاحظة أدّلة الطرفين.
ومن أدلّة الأشاعرة أنّه إذا أخبر المخبر بأنّه «جاء زيدٌ من السفر» فلا شكّفي اتّصاف هذه الجملة بالخبريّة، سواء كان المخبر عالماً بمطابقة المخبر به معالواقع أم شاكّاً، أم عالماً بمخالفة المخبر به مع الواقع، ولا يشترط فيه علم المخبربمطابقة المخبر به مع الواقع، كما أنّه لا دخل لحالات المستمع من العلم والشكّفيه، ولا يوجب علمه بكذب المتكلّم خروج الجملة عن الاتّصاف بالخبريّة،فإنّ ما يقال من أنّ الخبر يحتمل الصدق والكذب فهو باعتبار ذات الخبر معقطع النظر عن علم المتكلّم وجهله، أي من شأنه احتمال الصدق والكذب.
ثمّ استدلّ بأنّه لابدّ في الجمل الخبريّة من الحكاية عن الواقعيّة النفسانيّة،فإن كانت هي عبارة عن العلم والتصديق بثبوت مخبر به فهو لا يتحقّق إلاّ فيصورة واحدة من الصور الثلاثة، فنكشف من ذلك تحقّق الصفة النفسانيّة التينعبّر عنه بالكلام النفسي في جميع الصور المذكورة، وكما أنّ ألفاظ الجملة فيالاتّصاف بالخبريّة لا يكون مشروطاً بشرط في الصور الثلاثة كذلك تتحقّقصفة نفسانيّة اُخرى وراء العلم في الصور الثلاثة، بلا فرق بين علم المتكلّمبمطابقة خبره مع الواقع وشكّه وعلمه بمخالفة خبره معه، فتتحقّق للواقعيّةالخارجيّة ثلاث حالات، وأمّا الواقعيّة النفسانيّة فتتحقّق حتّى للكاذب، فلابدّ
(صفحه 487)
لنا من الالتزام بالكلام النفسي، وإلاّ لم يكن اتّصاف الجملة بالخبريّة في جميعالصور قابلاً للتوجيه.
وجوابه: يظهر بمراجعة الوجدان وبالفحص والتحليل مداليل الجملالخبريّة بعد كونها من المسائل المبتلى بها في الاستعمالات الشائعة بين الناس،وإذا قال المخبر: «زيدٌ قائمٌ» فلا نجد في هذه الجملة سوى عدّة من الواقعيّات:
الاُولى: واقعيّة الألفاظ، مثل: واقعيّة لفظ «زيد» و «قائم» وحركاتهما،وتقدّم بعض الحروف على الآخر وأمثال ذلك، ومثل واقعيّة هيئة الجملة نحومرفوعيّة لفظ الأوّل بعنوان المبتدأ والثاني بعنوان الخبر، وتقدّم أحدهما علىالآخر.
الثانية: واقعيّة المعاني، مثل: واقعيّة معنى «زيد» وواقعيّة معنى «القائم»بمادّته وهيئته، ومثل واقعيّة معنى الجملة.
الثالثة: واقعيّة الإرادة فإنّ التكلّم وصدور اللفظ من المتكلِّم فعل من أفعالهالاختياريّة، فلابدّ من كونه مسبوقاً بالإرادة التي لها مقدّمات ومبادئ، وفيرأس المبادئ التصوّر.
الرابعة: الواقعيّة النفسانيّة للمخبر، وهي اتّصافه بإحدى الحالات الثلاث،فإنّه قد يكون عالماً بالمطابقة، وقد يكون عالماً بالمخالفة، وقد يكون شاكّبالمطابقة والمخالفة.
الخامسة: واقعيّة مطابقة المخبر به مع الواقع وعدم مطابقته معه.
إذا عرفت هذا فنقول: لا شكّ ولا شبهة في عدم كون أحد هذه الواقعيّاتبالكلام النفسي، وأمّا واقعيّات الألفاظ والمعاني فلا دخل لها بالنفس، كما أنّواقعيّة مطابقة المخبر به للواقع وعدمه لا دخل لها بنفس المخبر، بل كانت هيمن أوصاف الجمل الخبريّة.
(صفحه488)
وأمّا الواقعيّة النفسانيّة المتحقّقة في الجمل الخبريّة ـ يعني اتّصاف المتكلّمبكونه عالماً بالمطابقة أو عالماً بالمخالفة أو شاكّاً ـ فتحقّقها وإن كان مقطوعاً ولمتكن قابلة للإنكار إلاّ أنّها أيضاً ليست بالكلام النفسي عند الأشاعرة، فإنّهمصرّحوا بأنّ الكلام النفسي مغايرٌ للعلم وزائد عليه، على أنّهم صرّحوا بأنّالمتحقّق في جميع الجمل الخبريّة واقعيّة واحدة وصفة متّحدة المآل، سواء كانالمتكلّم صادقاً أم كاذباً أم شاكّاً، فإن كان الكلام النفسي عبارة عن هذهالحالات الثلاث للمتكلّم واقعيّات ولا أقلّ من واقعيّتين ـ أي العلم والشكّ كما هو المعلوم.
وأمّا الواقعيّة النفسانيّة الاُخرى ـ يعنى واقعيّة الإرادة ـ فهي أيضاً لا تكونكلاماً نفسيّاً.
وتدلّ عليه أدلّة متعدّدة: منها: تصريح الأشاعرة بأنّ كلام النفس مغايرللإرادة.
ومنها: أنّ منشأ الإدارة في الجمل الخبريّة عبارة عن أنّ التكلّم فعلٌ منأفعاله الاختياريّة، وكلّ فعل اختياري مسبوق بالإدارة، فالتكلّم مسبوقبالارادة. ومن المعلوم أنّ هذا المنشأ يتحقّق في الخياطة والتجارة والكتابةأيضاً، فيكون الكلام النفسي في التاجر والخيّاط والكاتب أيضاً متحقّقاً حينالشروع، مع أنّهم قائلون بانحصار الكلام النفسي في الجمل الخبريّةوالإنشائيّة.
على أنّ الإرادة مسبوقة بالمبادئ، وأوّل المبادئ التصوّر، وهو قسم منالعلم؛ إذ العلم إن كان إذعاناً للنسبة فتصوّر وإلاّ فتصديق، وقد مرّ آنفاً أنّهمصرّحوا بأنّ الكلام النفسي مغايرٌ للعلم وزائد عليه، فلا تكون الواقعيّات