(صفحه 49)
ولا تسمّى بالعلم، فإذا دوّنت مسائل علم النحو نقول: هذا علم النحو.
وفيه: أوّلاً: أنّ الغرض من علم النحو ـ مثلاً ـ عبارة من صون اللسان عنالخطأ في المقال، ولاشكّ في أنّ هذا متأخّرٌ عن العلم بمراحل، فإنّ اللازم أوّلاً:وجود نفس المسائل، وثانياً: التعلّم والاطّلاع عليها، وثالثاً: التقيّد بمراعاةالقواعد والمسائل حين التكلّم، فإن لم تكن مرحلة من هذه المراحل لم يحصلالغرض، مع أنّ اللازم وجود التمايز في مرحلة نفس العلم إن لم يكن قبله،فكيف يكون التمايز بالأغراض مع تأخّرها عن العلوم بمراحل؟
وجوابه: أنّه اختلطت عليك العلّة الغائيّة في مقام الخارج مع العلّة الغائيّة فيمقام الذهن؛ إذ لاشكّ في أنّ كلّ عمل خارجي يتأخّر وقوع غرضه، وأمّالوجود الذهني للعلّة الغائيّة فهو موجودٌ قبل العمل.
وقال المحقّق الخراساني قدسسره : «إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلىالتدوين»(1). ومعلوم أنّ نفس هذا التعبير هو جواب عن هذا الإشكال.
وثانياً: أنّ العلوم من حيث الأغراض مختلفة؛ إذ يترتّب على أكثرهأغراض خارجيّة، مثل: علم الفقه والاُصول والنحو والصرف ونحوها، وأمّبعضها فلا يترتّب عليه غرض خارجي سوى العرفان والإحاطة به، مثل:علم الفلسفة والتأريخ والجغرافيا؛ إذ لا يترتّب عليها إلاّ الإيصال إلى الحقائقوالواقعيّات، فإن كانت العلوم من سنخ الأوّل سلّمنا أنّ تمايزها بتمايزالأغراض، وإن كانت من سنخ الثاني لم يكن الأمر كذلك؛ لعدم غرضخارجي لها ماعدا العرفان والإحاطة به.
وجوابه: أنّه إذا كان تمايز العلوم بتمايز الأغراض فلا فرق بين كونها علميّةً
(صفحه50)
أو عمليّةً؛ إذ يترتّب على كلّ علم غرض واقعيّ، إلاّ أنّ واقعيّة كلّ شيءبحسبه، فكما أنّ للوجود الذهني واقعيّة كذلك للعلم والعرفان واقعيّة.
ولا يخفى أنّ صحّة تمايز العلوم بالأغراض يتوقّف على مقدّمتين: الاُولى: أنيترتّب على كلّ علم غرض واحد. الثانية: ألاّ يكون التمايز قبل الغرض بشيءآخر، فإن تمّت هاتان المقدّمتان صحَّ التمايز بالأغراض، وإلاّ فلا.
والرأي الآخر في المسألة: ما يستفاد من كلام الإمام ـ دام ظلّه ـ(1) وحاصلكلامه: كما أنّ منشأ وحدة العلوم إنّما هو بتسانخ القضايا المتشتّة التي يناسببعضها بعضاً، فهذه السنخيّة والتناسب موجودة في جوهر تلك القضايوحقيقتها، ولا يحتاج إلى التعليل، فهكذا تمايز العلوم واختلاف بعضها عنبعض يكون بذاتها، فقضايا كلّ علم مختلفة ومتميّزة بذواتها عن قضايا بقيةالعلوم، وبعد الإيراد على مبنى المشهور وصاحب الكفاية قال: أنت ترىالتناسب الواقع بين مرفوعيّة الفاعل ومنصوبيّة المفعول، ولا يكون هذالتناسب بين أحد منهما وبين المسائل الرياضيّة أو العقليّة، وهكذا مباحثسائر العلوم التي في أيدينا، فتكون جهة التوحّد والتمايز تسانخ القضايوتمايزها بالطبع، والسنخيّة ذاتيّة، والذاتي لا يعلّل. وتداخل العلوم في بعضالمسائل لا يوجب أن يكون التميّز بالأغراض؛ إذ السنخيّة موجودة مع قطعالنظر عن الغرض، ولا يبعد أن تكون المسألة الاُصوليّة مسألة لغويّة أيضاً،مثل: مسألة دلالة الأمر على الوجوب، فإنّ سنخيّة مسألة مع مسائل علم لينفي سنخيّته مع مسائل علم آخر، مع أنّه قليلاً مّا يتّفق التداخل في علمين،ولا يكون ذلك بين جميع مسائل العلمين.
- (1) تهذيب الاُصول 1: 9 ـ 10.
(صفحه 51)
واستشكل عليه: بأنّ المسائل عبارة عن موضوعات ومحمولات وأغراضمترتّبة عليها، وهذه السنخيّة إن كانت بين الموضوعات فلابدّ من قولالمشهور بكون التمايز بالموضوعات، وإن كانت بين المحمولات فلابدّ من القولبكون التمايز بالمحمولات أو بالجامع بين المحمولات، وإن كان وجه السنخيّةاشتراك المسائل في الغرض فلابدّ من كون التمايز بالأغراض، ولا يتصوّر قسمرابع غير هذه الأقسام في المسألة.
ويمكن الجواب عنه: أوّلاً: بأنّه كما قلنا سابقاً إنّ الغرض يترتّب علىالمسألة، وهي متقوّمة بالموضوع والمحمول والنسبة، ولا يترتّب على أحد منهلوحده، وهكذا السنخيّة لا تكون بين الموضوعات لوحدها ولا المحمولاتلوحدها، بل تكون بين المسائل، والمسألة متقوّمة بثلاثة أشياء.
وثانياً: أنّه إذا فرض أنّ ملاك السنخيّة عبارة عن الموضوع أو المحمول أوالغرض فلا إشكال في البين؛ لأنّا نكشف الغرض عن طريق التسانخ بينالقضايا، فالأظهر والأجلى هي السنخيّة، وحينئذٍ لا مانع من كون تمايز العلومبالتسانخ الذاتي، وإن كانت علّة التسانخ عبارة عن الموضوع أو شيء آخر،فالتسانخ هو الموجب للامتياز بين العلوم.
ومن هنا يعلم جواب الإشكال الوارد على صاحب الكفاية، حيث إنّه قدسسره ذكر أنّ الغرض متأخّر عن العلم، والتمايز في مرتبة العلم؛ فإنّ مراده منهالغرض الداعي إلى التدوين، وأنّ الوجود الذهني للعلّة الغائيّة موجود قبلالتدوين، ومع ذلك قد يكون تمايز العلوم بالتسانخ، فإنّ المقدّمة الثانية لصحّةالتمايز بالأغراض ليست بتامّة.
والرأي الآخر في المسألة عبارة عن رأي المرحوم البروجردي قدسسره وله ههنا
(صفحه52)
دعويان:
إحداهما: أنّ تمايز العلوم بتمايز جامع محمولات المسائل. وهذا مباينٌ لمنفاه صاحب الكفاية قدسسره فإنّ مقصوده نفس المحمولات لا الجامع بينالمحمولات، ويشهد لذلك ما أورده عليه وعلى المشهور من لزوم صيرورةمسألة واحدة علماً مستقلاًّ؛ إذ لو كان مراده الجامع بين المحمولات لا يرد عليههذا الإيراد، فإنّ الجامع شيء واحد.
الثانية: أنّ الظاهر من كلمات المشهور وإن كان التمايز بالموضوعات ولكنّمرادهم من ذلك في الواقع الجامع بين المحمولات. وذكر لإثبات هذينالادّعاءين مقدّمات خمسة:
الاُولى: أنّه لا يخفى أنّا إذا راجعنا كلّ واحد من العلوم المدوّنة وقصرنالنظر على نفس مسائله من غير التفات إلى ما يكون خارجاً من ذات المسائلمن المدوّن والأغراض ونحوهما علمنا علماً وجدانيّاً باشتراك جميع تلكالمسائل المتشتّة في جهة وحيثيّة لا توجد هذه الجهة في مسائل سائر العلوم،وتكون هذه الجهة جامعة بين تلك المسائل، وبسببها يحصل التمييز بين مسائلهذا العلم وبين مسائل سائر العلوم، وكذلك وجدنا في كلّ مسألة من مسائلهذا العلم جهة وخصوصيّة تميّز هذه المسألة عن غيرها من مسائل هذا العلم.
مثلاً: إذا راجعنا مسائل علم النحو وقطعنا النظر عن مدوّنه والأغراضالباعثة إلى تدوينه رأينا أنّ جهة البحث في جميعها كيفيّة آخر الكلمة منالمرفوعيّة والمنصوبيّة والمجروريّة، فهي خصوصيّة ذاتيّة ثابتة في جميع مسائله،مع قطع النظر عن المدوّن والأغراض ونحوهما، وهي الجهة الجامعة بين هذهالمسائل المتشتّة، وبسببها تمتاز هذه المسائل عن مسائل سائر العلوم، ومع ذلكرأينا أنّ في نفس كلّ مسألة منها خصوصيّة ذاتيّة بها تمتاز عن غيرها
(صفحه 53)
من سائر مسائله، وحيث لم تكن هاتان الجهتان خارجتين عن ذوات المسائلبحكم الوجدان فلا محالة ليستا خارجتين عن الموضوع والمحمول؛ إذ النسبةمعنى آلي توجد في جميع القضايا بنحو واحد، ولا تختلف باختلاف المسائل.
المقدّمة الثانية: أنّك إذا تتبّعت العلوم المدوّنة، ودقّقت النظر في مسائل كلّواحد منها رأيت أنّ في بعض العلوم الموجودة يكون المحمول في جميع مسائلهأمراً واحداً، كالعلم الإلهي بالمعنى الأعمّ، فإنّ المحمول في جميع مسائله مفهومواحد، وهو قولنا: «موجود». فيقال: اللّه موجودٌ، العقل موجود، الجسمموجود، الجوهر موجود، الكمّ موجود، وهكذا، وأنّ بعضها ممّا يختلفالمحمول في مسائله، ولكنّه يوجد بين محمولاته المختلفة جهة جامعة، بل ربميكون المحمول في مسائل فصل منه أمراً واحداً كعلم النحو، فإنّ المرفوعيةـ مثلاً ـ تارة تحمل على الفاعل واُخرى على المبتدأ، ويتحصّل بذلك مسألتان،ومع ذلك فالمرفوعيّة وإن كانت تغاير المنصوبيّة ولكن بينهما جهة جامعةذاتيّة، حيث إنّ كلاًّ منهما من تعيّنات الإعراب الحاصل لآخر الكلمة.
وبالجملة، فإنّ المحمول لا يختلف دائماً في جميع مسائل العلم، وأمّموضوعات المسائل فهي ممّا تختلف دائماً في جميع المسائل من أيّ علم كانت،وكما عرفت في المقدّمة الاُولى: من أنّ في كلّ مسألة من مسائل العلم توجدجهتان: جهة ذاتيّة جامعة بين جميع مسائل هذا العلم وبها تمتاز عن مسائلسائر العلوم، وجهة ذاتيّة بها تمتاز هذه المسألة عن غيرها من مسائل هذالعلم.
وعرفت أيضاً أنّ الجهتين ليستا خارجتين عن الموضوع والمحمول، فلمحالة تنحصر الجهة الاُولى في المحمول والجهة الثانية في موضوع المسائل؛ لأنّهيختلف في جميع المسائل بخلاف المحمول.