(صفحه494)
يقول: «لم يزل اللّه عزّ وجلّ ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم ـ أي كان اللّه تعالى عالممع أنّه لم يتحقّق المعلوم في الخارج ـ والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولمبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور ـ كما أنّ الإنسان قادر على القيام في حال قعودهمع أنّه لم يكن متحقّقاً ـ فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه علىالمعلوم والسمع على المسموع والبصر على المبصر والقدرة على المقدور»،قال: قلت: فلم يزل اللّه متحرّكاً؟ قال: فقال: «تعالى اللّه عن ذلك أنّ الحركةصفة محدثة بالفعل»، قال: قلت: فلم يزل اللّه متكلّماً؟ قال: فقال: «إنّ الكلامصفة محدثةٌ ليست بأزليّة، كان اللّه عزّ وجلّ ولا متكلّم»(1).
ويستفاد من ذلك أنّ صفة التكلّم تكون من الأوصاف الفعليّة والمحدثة علىالظاهر، وإن أمكن أن تكون للحديث توجيهات فلسفيّة.
الجهة الثانية: في أنّ عنوان المتكلّم هل يكون من المشتقّات الحقيقيّة أو منالمشتقّات الجعليّة؟ التكلّم يكون من باب تفعّل، لا شكّ في تحقّق الماضيوالمضارع وسائر المشتقّات له في هذا الباب، ولكن لم نجد له مصدر ثلاثيمجرّد، فإن قيل: هي عبارة عن «الكلم» قلنا: إنّه لو سلّمناه لا نرى له في اللغةالعربية فعل ماض ولا مضارع ولا سائر المشتقّات، مع أنّه ليس بمعنى الكلامبل هو بمعنى الجرح والجراحة لغة.
وعلى هذا ما معنى التكلّم؟ من المعلوم أنّ معناه إيجاد الكلام، ولفظ الإيجاديوجب تحقّق المعنى الاشتقاقي فيه، كما أنّ لفظ البيع يوجب تحقّق المعنىالاشتقاقي في كلمة «اللابن»، فحينئذٍ يصدق المتكلّم على اللّه تعالى، كما يصدقعلى الإنسان بلا فرق بينهما أصلاً، إلاّ أنّا نتكلّم باللسان، ولكنّه تعالى يوجد
- (1) الكافي 1: 107، الحديث 1.
(صفحه 495)
الكلام في موجود آخر بلحاظ عدم جسميّته.
ولا يتوهّم أنّ معنى المتكلّم هو الكلام؛ إذ ليس للكلام معنى مصدري بلاسم مصدر، ونعبّر عنه باللّغة الفارسيّة بـ «سخن» فلا يتصوّر له معنى سوىإيجاد الكلام.
وهذا الجواب موافق لنظر المعتزلة والمتكلّمين من الإماميّة، وقد ذكرنا فيصدر المسألة حكاية نظر بعض أهل التحقيق من أنّ تكلّمه تعالى يتحقّق مندون وساطة شيء من الأشياء، كتكلّمه تعالى مع موسى عليهالسلام بدون واسطةٍ،وقد مرّ أيضاً ما قال به الإمام الأعظم قدسسره بعد نفي هذه الأقوال: «إنّه تعالىمتكلّم والقرآن كتابه ونزل على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بالوحي، وأمّا كيفيّة الوحيوتكلّمه ممّا لم يصل إليها فكر البشر إلاّ الأوحدي الراسخ في العلم بقوّةالبرهان المشفوع إلى الرياضات ونور الإيمان».
ثمّ قال: يمكن أن نلتزم بالكلام النفسي، ولكنّ أفهام أصحاب الكلام منالمعتزلة والأشاعرة بعيدة عن طور هذا الكلام، فالإعراض عنه أولى.
ولكن ما ذكرناه في مقام الجواب عن الأشاعرة موافقاً لظاهر الآياتوالروايات يكفي في نفي الكلام النفسي، ولا نطيل الكلام في هذه المقولة أزيدمن ذلك.
ولا يخفى أنّ القول بتحقّق الكلام النفسي لايستلزم أن يكون الطلبوالإرادة متغايرين، كما أنّ إنكاره لا يستلزم القول بالاتّحاد بينهما، وإن استفيدذلك من كلام صاحب الكفاية قدسسره ـ كما أشرنا إليه في صدر المسألة ـ ولكنّهمبحثان مستقلاّن: أحدهما: بحث لغويّ، والآخر: كلامي، ولا ارتباط بينهمأصلاً. ونحن فرغنا بعون اللّه من البحث الكلامي.
(صفحه496)
وأمّا البحث اللّغوي وهو: أنّ لفظي الطلب والإرادة هل وضعا بإزاء مفهومواحد أو يكون لكلّ منهما معنى لا يكون للآخر؟ وقد مرّ ما ذكره المحقّقالخراساني قدسسره من: أنّهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد، وهما متّحدان في المفهوموالوجود الحقيقي والإنشائي والذهني، غاية الأمر أنّ لفظ الطلب ينصرف عندإطلاقه إلى وجوده الإنشائي، ولفظ الإرادة ينصرف إلى وجودها الحقيقي،وهذا لايوجب المغايرة بين اللفظين في المفهوم؛ إذ لا مانع من أن يكون اللفظانالمترادفان متغايرين من حيث الانصراف.
ولكنّ المحقّقين من الاُصوليّين بعد إنكارهم الكلام النفسي في البحث السابقيقولون بتعدّد مفهوم الطلب والإرادة، منهم اُستاذنا المرحوم السيّدالبروجردي قدسسره (1) حيث قال في الابتداء بعنوان ضابطة كلّيّة لما يتعلّق بهالإنشاء: إنّ الموجودات على قسمين: الأوّل: ما يكون له وجود حقيقي وواقعيفي الخارج، بحيث يكون بإزائه شيء فيه كالإنسان والحيوان والبياضونحوها، وهو لايقبل الإنشاء. الثاني: ما لا يكون كذلك بل يكون وجودهبوجود منشأ انتزاعه، وهو قد ينتزع عن الاُمور الحقيقيّة والواقعيّة كالفوقيّةوالتحتيّة ونحوها وهو أيضاً لا يقبل الإنشاء، وقد ينتزع عن الاعتباراتوالإنشائيّات كالملكيّة والزوجيّة وأمثال ذلك وهو يقبل الإنشاء، فالمعتبر فيالمنشأ ألاّ يكون من الاُمور الواقعيّة ولا متنزعاً منها، بل كان من الاُمورالاعتباريّة المحضة.
ثمّ قال: إنّ الإرادة من صفات النفس، والصفات النفسانيّة من الاُمورالحقيقيّة والواقعيّة فلا تقبل الوجود الإنشائي، بخلاف الطلب فإنّ له معنى قابل
- (1) نهاية الاُصول 1: 92 ـ 93.
(صفحه 497)
للإنشاء؛ إذ ليس معناه سوى البعث والتحريك نحو العمل، وكما أنّهما يحصلانبالتحريك الفعلي ـ كأخذ الطالب من يد المطلوب منه وجرّه نحو العملالمقصود ـ فكذلك يحصلان بالتحريك القولي؛ بأن يقول الطالب: اضرب فلانأو أطلب منك الضرب أو آمرك بكذا ـ مثلاً ـ فقوله: «افعل كذا» بمنزلة أخذهمن يد المطلوب منه وجرّه نحو العمل المقصود، فحقيقة الطلب مغايرة لحقيقةالإرادة. نعم الطلب بكلا معنييه ـ أي البعث والتحريك الفعلي والقولي ـ مبرزٌومظهر للإرادة، وليس معناه اتّحاد الطلب والإرادة، بل كان معناه أنّ ههنشيئين وأنّ أحدهما مبرزٌ للآخر، فالإرادة صفة قائمة بالنفس، والطلب عبارةعن البعث والتحريك، وهو قد يكون فعليّاً وقد يكون قوليّاً. هذا محصّل بيانسيّدنا الأعظم المرحوم البروجردي.
وفيه: أنّ تعلّق الإنشاء بالطلب ـ سواء تعلّق بالبعث والتحريك العملي أوالقولي أو مفهوم الطلب ـ لايخلو من اشكال، ولا يناسب القاعدة المذكورة.
أمّا تعلّق الإنشاء بالبعث والتحريك العملي ـ يعني هداية الآمر المأمور نحوالمأمور به عملاً ـ فلا شكّ في أنّه أمرٌ مبصرٌ ومشاهد، وهو واقعيّة مسلّمة، فلريب في بطلان هذا الفرض.
وأمّا تعلّق الإنشاء بالبعث والتحريك القولي ـ يعني صدور الأمر من قبلالمولى ـ فلا شكّ في أنّه أيضاً واقعيّة من الواقعيّات الخارجيّة، فإنّ واقعيّةالقول بصدور الألفاظ والكلمات عن اللافظ والمتكلّم، مع أنّ البعث والتحريكالقولي هو البعث والتحريك الإنشائي، والمنشأ مع وصف كونه منشأ وقيدالمنشائيّة قيداً له لايعقل أن يكون متعلّقاً للإنشاء؛ إذ المنشأ متحقّق قبل تعلّقالإنشاء به، فهو تحصيل للحاصل وتقدّم الشيء على نفسه مع ملاحظة أنّالمنشأ مغاير للإنشاء، بل يتحقّق بسبب الإنشاء.
(صفحه498)
وأمّا تعلّق الإنشاء بالماهيّة ومفهوم البعث والتحريك مع قطع النظر عنالمصداق فهو صحيحٌ كما قال به صاحب الكفاية قدسسره ، ولكنّه لا فرق بين الطلبوالإرادة من هذه الناحية، فإذا كان مفهوم الطلب قابلاً لتعلّق الإنشاء به فلِمَلا يكون مفهوم الإرادة قابلاً لتعلّق الإنشاء بها؟! فما قال به سيّدنا الاُستاذ قدسسره ليس قابلاً للمساعدة.
وأحسن المقال في المقام ماذكره بعض الأعلام على ما في كتابالمحاضرات(1)، وتوضيحه: أنّ الإرادة صفة من الأوصاف النفسانيّة القائمةبالنفس، ولا بحث فيها، إنّما الكلام فيما وضع له لفظ الطلب وفيما يفهم منه عرفاً،والطلب لغة: عبارة عن محاولة الشيء وأخذه والتصدّي نحو تحصيل شيء فيالخارج، وهذا من الأفعال الاختياريّة الصادرة عن الإنسان، فهو مباينٌ معالإرادة، ويؤيّده الاستعمالات العرفيّة؛ إذ لا يقال: طالب المال أو طالب الدنيأو طالب العلم لمن اشتقاق إليها وأرادها في اُفق النفس مالم يظهر في الخارجبقول أو فعل، بل يقال لمن تصدّى خارجاً لتحصيلها، فالطلب مباين للإرادةمفهوماً ومصداقاً.
وبالنتيجة الطلب كالإرادة، كان من الاُمور الواقعيّة، ويتحقّق بالسعي فيالخارج للإيصال إلى المطلوب، إلاّ أنّه قد يكون بالمباشرة وقد يكون بالقول،كقول المولى لعبده: «جئني بالماء» فلا يتعلّق الإنشاء بالطلب أيضاً، وسيأتي إنشاء اللّه تعالى أنّه ما ينشأ بهيئة «افعل». هذا تمام الكلام في مسألة الكلامالنفسي واتّحاد الطلب والإرادة، ولا ضرورة إلى بيان بحث الجبر والتفويضبعنوان مسألة اُصوليّة.
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 2: 16.