(صفحه 489)
المتحقّقة المذكورة كلاماً نفسيّاً، ولا ضرورة تقتضي الالتزام بتحقّق الكلامالنفسي في الجمل الخبريّة، ولا نقص فيها حتّى ينجبر بالتزام تحقّق الواقعيّةالمجهولة باسم الكلام النفسي.
وأمّا في الجمل الإنشائيّة الطلبيّة فكان للكلام النفسي عندهم اصطلاحخاصّ، وهو الطلب، فاستدلّ ههنا بصورة السؤال عن المعتزلة بأنّ المولى إذقال لعبده: «جئني بالماء» فما هي الصفة النفسانيّة المتحقّقة في الجمل الإنشائيّةالطلبيّة؟ فلا محالة تقول المعتزلة: هي عبارة عن الإرادة المتعلّقة بتحقّق المأموربه في الخارج عن المكلّف.
وجوابه: أنّ الجمل الإنشائيّة الطلبيّة قد تتحقّق بدون أن تكون إرادة المولىمتعلّقة بتحقّق المأمور به في الخارج كما في الأوامر الاختياريّة؛ إذ لا شكّ فيتحقّق الأمر فيها، ويكون إطلاق الأمر عليها على نحو الحقيقة لا على سبيلالتجوّز والمسامحة، ومع ذلك لا تتحقّق فيها الإرادة النفسانيّة المذكورة.
وهكذا في الأوامر الاعتذاريّة؛ إذ لا يريد فيها تحقّق المأمور به، بل المرادرفع لوم الناس في ضرب المأمور ومؤاخذته باعتذار أنّه قد عصاه، فالطلب فيصورتي الاختبار والاعتذار موجود بدون الإرادة، مع أنّها أمرٌ حقيقي ويجريعليها ما يجري على الأوامر الاُخر من استحقاق العقوبة وأمثاله.
فيستفاد من ذلك أنّ غير الإرادة المتحقّقة في بعض الأوامر تتحقّق صفةنفسانيّة اُخرى في جميع الأوامر التي نسمّيها بالكلام النفسي ونعبّر عنه ههنبالطلب، فالطلب مغاير للإرادة، كما يدلّ عليها قول الشاعر:
إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما
|
جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
|
فإنّ مقتضاه أنّ ظرف تحقّق الكلام الحقيقي عبارة عن النفس، وأمّا الألفاظ
(صفحه490)
والأصوات فتكون بمنزلة الدليل والكاشف عنه.
وجوابه: في الجمل الإنشائيّة عين الجواب عن الاستدلال في الجملالخبريّة، فإنّهما مشتركان في كثير من الواقعيّات المتحقّقة المذكورة في الجملالخبريّة، فالوجدان أقوى شاهد لعدم تحقّق صفة نفسانيّة في نفس الآمر، سوىإرادة تحقّق المأمور به عن المأمور حين الأمر، وأمّا الأوامر الاختياريّةوالاعتذاريّة وإن لم تتحقّق فيها هذه الإرادة، إلاّ أنّ الداعي الاختباروالاعتذار متحقّقٌ فيها مثل داعي تحقّق المأمور به في سائر الأوامر، فأيّ دليليقتضي ثبوت الصفة النفسانيّة الاُخرى سوى هذه الدواعي الموجودة فيها، فليستلزم عدم تحقّق الإرادة في بعض الأوامر ثبوت الكلام النفسي.
وأمّا الجواب عن الاستدلال بقول الشاعر فأوّلاً: أنّه من الممكن أن يكونالشاعر من الأشاعرة، مع أنّه لا دليل على حجّيّة الشعر، إلاّ أن يكون منالأئمّة المعصومين عليهمالسلام .
وثانياً: أنّ مفاد الشعر المذكور لا ينطبق على الكلام النفسي أصلاً، فإنّمفاده عبارة عن أنّ مراد الإنسان من التكلّم هو إطلاع الغير على ما في قلبه،بحيث إن أمكن الاطّلاع عليه بدون التكلّم لا يحتاج إلى الألفاظ والأصواتواللسان، وإنّما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً، فهو أيضاً لا يدلّ على تحقّقالكلام النفسي.
وقد مرّ أنّ الأساس لإثبات الكلام النفسي هو إطلاق المتكلّم على الباريتعالى، فإنّ الأشاعرة لاحظت أنّ إطلاق المتكلّم عليه تعالى في الإطلاقاتوالاستعمالات شائع بين المتشرّعة، ولاحظت أيضاً أنّ في صدق المشتقّ لابدّمن تحقّق الارتباط بين المبدأ والذات، فقد مرّ في بحث المشتقّ أنّ العلماء
(صفحه 491)
اختلفوا في كيفيّة هذا الارتباط، وقالت الأشاعرة: إنّه لابدّ من كون المبدأ قائمبالذات بالقيام الحلولي، ولاحظت هذا المعنى في قولنا: الجسم أبيضٌ أو أسودٌ،فإنّ البياض أو السواد قائمان بالجسم بالقيام الحلولي، وهما حالان في الجسم،والجسم محلّ لهما، ثمّ فرضت هذا المعنى بعنوان الضابطة الكلّيّة في جميعالمشتقّات.
ثمّ قالت: تجري هذه القاعدة في إطلاق المتكلّم المشتقّ على اللّه تعالى، ولابدّأن يكون بين الكلام وذات الباري ارتباط بنحو القيام الحلولي، فحينئذٍ ليعقل أن يكون الكلام اللفظي مع كونه من الاُمور المتصرّمة والمتدرّجةوالحادثة حالاًّ في ذات الباري، فلابدّ من الالتزام بالكلام النفسي الذي هوحالّ في ذات الباري وقديم بقدمه. هذا محصّل ما قالت به الأشاعرة في تحقّقالكلام النفسي لذات الباري.
وفيه: أنّ مبنى الأشاعرة لا دليل عليه، مع أنّه منافٍ لأكثر المشتقّات، ولتجري هذه الضابطة المسلّمة عندهم في أكثرها، ولا ينحصر المشتقّ بما يجريفيه هذا المعنى كالأبيض والأسود وأمثال ذلك؛ إذ لا شكّ في أنّ الضاربوالقاتل يكونان من المشتقّات، مع أنّ مبدئيهما ـ أي الضرب والقتل ـ قائمانبالذات بالقيام الصدوري لا الحلولي، وهكذا أمثالهما.
وأوضح من ذلك أنّه لا شكّ في أنّ إطلاق المالك على «زيد» يكون بنحوالحقيقة، مع أنّ الملكيّة أمرٌ اعتباريٌ اعتبرها الشارع والعقلاء، ولا يكونبإزائها شيء في الخارج، فلا قيام في البين، فضلاً من أن يكون بنحو الحلول،وهكذا العناوين، مثل: الزوج والزوجة وأمثالهما، فلا كلّيّة للقاعدة المذكورة فيكلام الأشاعرة.
(صفحه492)
وعلى أنّ لازم هذا القول في الأوصاف الذاتيّة ـ كالعلم والقدرة ـ زيادتهعليها وتحقّق القديمين المستقلّين، مع أنّ عينيّة صفات الذات مع الذات لا شكّفيها وقد ثبت في محلّه، كما روي عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه قال: «وكمالالإخلاص نفي الصفات عنه»(1) يعني نفي شيء زائد على الذات، ومقتضى هذهالعينيّة ألاّ تكون في صدق عنوان المشتقّ بين المبدأ والذات مغايرة عينيّةووجوديّة، فلا تعتبر في صدق عنوان المشتقّ مغايرة حقيقيّة وواقعيّة بينهما،فضلاً من القيام الحلولي، فالعينيّة نوع من التلبّس ـ كما قال به صاحبالكفاية قدسسره ـ بل هي مصداقه الأتمّ والأكمل، ولكن يتبادر إلى الذهن من سماعلفظ التلبّس ما يتغاير المبدأ والذات فيه بلحاظ ابتلائنا كثيراً مّا بما يكونكذلك.
ومن هنا يستفاد أنّ دائرة صدق عنوان المشتقّ أوسع ممّا قال به الأشاعرة.
وأوضح ممّا ذكرنا أنّا نرى في الاستعمالات العرفيّة بدون المسامحة والتجوّزإطلاق عنوان البقّال على بائع البقل، وإطلاق عنوان العطّار على بائع العطر،مع أنّ مبدأهما لا يناسب الذات أصلاً؛ إذ لا يكون للبقل والعطر معنى فعليحديث، وهكذا إطلاق اللابن والتامر على بائع اللبن والتمر، ويعبّر عن هذهالمشتقّات بالمشتقّات الجعليّة، أي لا يكون لها مصدر وفعل ماضي ومضارع،مع أنّه ينطبق عنوان المشتقّ في هذه الموارد أيضاً.
إذا عرفت هذا فنرجع إلى أصل المسألة ـ يعني إطلاق المتكلّم على اللّهتعالى ـ ونبحث مع الأشاعرة من جهتين:
الاُولى: في أنّ الصفات على نوعين: الأوّل: صفات الفعل، الثاني: صفات
- (1) البحار 4: 247، الحديث 5.
(صفحه 493)
الذات، وملاك التمايز بينهما أنّ كلّ صفة لا يصدق ضدّها على اللّه تعالى في أيّحالٍ من الحالات وأيّ زمان من الأزمنة، وبالنسبة إلى أيّ شيء من الأشياء،مثل صفة العلم والقدرة وأمثالهما فهي من صفات الذات، وأمّا الصفة التييصدق ضدّها عليه تعالى في بعض الحالات وفي بعض الأزمنة وبالنسبة إلىبعض الأشياء فهي من صفات الفعل، مثل صفة الخالقيّة والرازقيّة، فإنّه لميخلق ـ مثلاً ـ الإنسان الذي كان طول قامته سبعين ذراعاً في عين كونهمقدوراً له تعالى، فيصدق في هذا المورد ضدّ الخالقيّة عليه تعالى، وهكذا فيالرازقيّة كما قال في الآية الشريفة: «وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِىالرِّزْقِ»(1)، فيصدق على المرتبة النازلة منه عدم الرازقيّة بالنسبة إلى المرتبةالعالية منه.
على أنّ صفة الذات قديمة بقدم الذات، بخلاف صفة الفعل فإنّها حادثةٌ ولتتّصف بالقدم، ومن هنا نستكشف أنّ المتكلّميّة ليست من صفات الذات، بلتكون من صفات الفعل، ويدلّ قوله تعالى: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا»(2) علىأنّ التكلّم تحقّق في زمان خاصّ لا بعده ولا قبله، أي عدم التكلّم في غير ذلكالزمان، فالتكلّم من صفات الفعل بمقتضى الآية، فنفس الآية منافية للالتزامبالكلام النفسي القديم.
ويدلّ عليه ما رواه الكليني قدسسره في اُصول الكافي عن عليّ بن إبراهيمـ الموثّق ـ عن محمّد بن خالد الطيّالسي ـ الممدوح ـ عن صفوان بن يحيىـ الموثّق ـ عن ابن مسكان ـ الموثّق ـ عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبداللّه عليهالسلام