(صفحه 497)
للإنشاء؛ إذ ليس معناه سوى البعث والتحريك نحو العمل، وكما أنّهما يحصلانبالتحريك الفعلي ـ كأخذ الطالب من يد المطلوب منه وجرّه نحو العملالمقصود ـ فكذلك يحصلان بالتحريك القولي؛ بأن يقول الطالب: اضرب فلانأو أطلب منك الضرب أو آمرك بكذا ـ مثلاً ـ فقوله: «افعل كذا» بمنزلة أخذهمن يد المطلوب منه وجرّه نحو العمل المقصود، فحقيقة الطلب مغايرة لحقيقةالإرادة. نعم الطلب بكلا معنييه ـ أي البعث والتحريك الفعلي والقولي ـ مبرزٌومظهر للإرادة، وليس معناه اتّحاد الطلب والإرادة، بل كان معناه أنّ ههنشيئين وأنّ أحدهما مبرزٌ للآخر، فالإرادة صفة قائمة بالنفس، والطلب عبارةعن البعث والتحريك، وهو قد يكون فعليّاً وقد يكون قوليّاً. هذا محصّل بيانسيّدنا الأعظم المرحوم البروجردي.
وفيه: أنّ تعلّق الإنشاء بالطلب ـ سواء تعلّق بالبعث والتحريك العملي أوالقولي أو مفهوم الطلب ـ لايخلو من اشكال، ولا يناسب القاعدة المذكورة.
أمّا تعلّق الإنشاء بالبعث والتحريك العملي ـ يعني هداية الآمر المأمور نحوالمأمور به عملاً ـ فلا شكّ في أنّه أمرٌ مبصرٌ ومشاهد، وهو واقعيّة مسلّمة، فلريب في بطلان هذا الفرض.
وأمّا تعلّق الإنشاء بالبعث والتحريك القولي ـ يعني صدور الأمر من قبلالمولى ـ فلا شكّ في أنّه أيضاً واقعيّة من الواقعيّات الخارجيّة، فإنّ واقعيّةالقول بصدور الألفاظ والكلمات عن اللافظ والمتكلّم، مع أنّ البعث والتحريكالقولي هو البعث والتحريك الإنشائي، والمنشأ مع وصف كونه منشأ وقيدالمنشائيّة قيداً له لايعقل أن يكون متعلّقاً للإنشاء؛ إذ المنشأ متحقّق قبل تعلّقالإنشاء به، فهو تحصيل للحاصل وتقدّم الشيء على نفسه مع ملاحظة أنّالمنشأ مغاير للإنشاء، بل يتحقّق بسبب الإنشاء.
(صفحه498)
وأمّا تعلّق الإنشاء بالماهيّة ومفهوم البعث والتحريك مع قطع النظر عنالمصداق فهو صحيحٌ كما قال به صاحب الكفاية قدسسره ، ولكنّه لا فرق بين الطلبوالإرادة من هذه الناحية، فإذا كان مفهوم الطلب قابلاً لتعلّق الإنشاء به فلِمَلا يكون مفهوم الإرادة قابلاً لتعلّق الإنشاء بها؟! فما قال به سيّدنا الاُستاذ قدسسره ليس قابلاً للمساعدة.
وأحسن المقال في المقام ماذكره بعض الأعلام على ما في كتابالمحاضرات(1)، وتوضيحه: أنّ الإرادة صفة من الأوصاف النفسانيّة القائمةبالنفس، ولا بحث فيها، إنّما الكلام فيما وضع له لفظ الطلب وفيما يفهم منه عرفاً،والطلب لغة: عبارة عن محاولة الشيء وأخذه والتصدّي نحو تحصيل شيء فيالخارج، وهذا من الأفعال الاختياريّة الصادرة عن الإنسان، فهو مباينٌ معالإرادة، ويؤيّده الاستعمالات العرفيّة؛ إذ لا يقال: طالب المال أو طالب الدنيأو طالب العلم لمن اشتقاق إليها وأرادها في اُفق النفس مالم يظهر في الخارجبقول أو فعل، بل يقال لمن تصدّى خارجاً لتحصيلها، فالطلب مباين للإرادةمفهوماً ومصداقاً.
وبالنتيجة الطلب كالإرادة، كان من الاُمور الواقعيّة، ويتحقّق بالسعي فيالخارج للإيصال إلى المطلوب، إلاّ أنّه قد يكون بالمباشرة وقد يكون بالقول،كقول المولى لعبده: «جئني بالماء» فلا يتعلّق الإنشاء بالطلب أيضاً، وسيأتي إنشاء اللّه تعالى أنّه ما ينشأ بهيئة «افعل». هذا تمام الكلام في مسألة الكلامالنفسي واتّحاد الطلب والإرادة، ولا ضرورة إلى بيان بحث الجبر والتفويضبعنوان مسألة اُصوليّة.
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 2: 16.
(صفحه 499)
(صفحه500)
في معاني صيغة الأمر
الفصل الثاني
فيما يتعلّق بصيغة الأمر
أي هيئة افعل وما يشابهها، وفيه مباحث:
المبحث الأوّل
في معاني الصيغة
أنّه ربّما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها، وقد عدّ منها الترجّي والتمنّي،والتهديد كقوله تعالى: «اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ»(1)، والإنذار والإهانة كقوله تعالى:«ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ»(2)، والاحتقار والتعجيز كقوله تعالى: «وَ إِنكُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِى»(3)، والتسخيركقوله تعالى: «كُونُواْ قِرَدَةً خَـسِـءِينَ»(4) إلى غير ذلك.
وهو كما ترى؛ ضرورة أنّ الصيغة لم تستعمل في واحد منها، بل لم تستعمل
(صفحه 501)
إلاّ في إنشاء الطلب ـ أي الطلب الإنشائي في مقابل الطلب الحقيقي لا إنشاءالطلب؛ إذ الإنشائيّة والإخباريّة كالاستقلاليّة والآليّة عن المعنى الاسميوالحرفي خارجتان عن المعنى المستعمل فيه ـ إلاّ أنّ الداعي إلى ذلك كما يكونتارةً هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي، ويكون اُخرى أحد هذهالاُمور كما لا يخفى.
وقصارى ما يمكن أن يدّعى أن تكون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب فيمإذا كان بداعي البعث والتحريك، لا بداعٍ آخر منها، فيكون إنشاء الطلب بهبعثاً حقيقة وإنشاؤه بها تحديداً مجازاً، وهذه غير مستعملة في التحديد وغيرهفلا تغفل. هذا تمام الكلام لصاحب الكفاية قدسسره (1).
ولكنّه يصحّ على القول باتّحاد الطلب والإرادة في جميع المراحل؛ إذ لا فرقبين أن يقول: مفاد هيئة «افعل» هو إنشاء الطلب أو إنشاء الإرادة.
وأمّا على القول بتغايرهما وكونهما واقعتين مستقلّتين: إحداهما قائمةٌبالنفس والاُخرى عبارة عن السعي المشاهد والمحسوس في الخارج، فليكون كلّ منهما قابلاً للإنشاء، بل لابدّ من أن يكون المنشأ أمراً اعتباريّاً، بناءًعلى الضابطة التي حكيناها عن المرحوم البروجردي قدسسره ، مع أنّه لا شكّ في أنّمفاد هيئة «افعل» هو المعنى الإنشائي، فما الذي ينشأ بصيغة «افعل» بعد أليكون الطلب قابلاً للإنشاء؟
ولابدّ لنا من التحقيق في هذه المسألة المبتلى بها والشائعة بين الناس،فنقول: إنّ استعمال هيئة «افعل» قد يكون بداعي البعث والتحريك وتحقّقالمأمور به في الخارج، وقد يكون بسائر الدواعي كالتمنّي والترجّي والتعجيز
- (1) كفاية الاُصول 1: 102.