(صفحه492)
وعلى أنّ لازم هذا القول في الأوصاف الذاتيّة ـ كالعلم والقدرة ـ زيادتهعليها وتحقّق القديمين المستقلّين، مع أنّ عينيّة صفات الذات مع الذات لا شكّفيها وقد ثبت في محلّه، كما روي عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه قال: «وكمالالإخلاص نفي الصفات عنه»(1) يعني نفي شيء زائد على الذات، ومقتضى هذهالعينيّة ألاّ تكون في صدق عنوان المشتقّ بين المبدأ والذات مغايرة عينيّةووجوديّة، فلا تعتبر في صدق عنوان المشتقّ مغايرة حقيقيّة وواقعيّة بينهما،فضلاً من القيام الحلولي، فالعينيّة نوع من التلبّس ـ كما قال به صاحبالكفاية قدسسره ـ بل هي مصداقه الأتمّ والأكمل، ولكن يتبادر إلى الذهن من سماعلفظ التلبّس ما يتغاير المبدأ والذات فيه بلحاظ ابتلائنا كثيراً مّا بما يكونكذلك.
ومن هنا يستفاد أنّ دائرة صدق عنوان المشتقّ أوسع ممّا قال به الأشاعرة.
وأوضح ممّا ذكرنا أنّا نرى في الاستعمالات العرفيّة بدون المسامحة والتجوّزإطلاق عنوان البقّال على بائع البقل، وإطلاق عنوان العطّار على بائع العطر،مع أنّ مبدأهما لا يناسب الذات أصلاً؛ إذ لا يكون للبقل والعطر معنى فعليحديث، وهكذا إطلاق اللابن والتامر على بائع اللبن والتمر، ويعبّر عن هذهالمشتقّات بالمشتقّات الجعليّة، أي لا يكون لها مصدر وفعل ماضي ومضارع،مع أنّه ينطبق عنوان المشتقّ في هذه الموارد أيضاً.
إذا عرفت هذا فنرجع إلى أصل المسألة ـ يعني إطلاق المتكلّم على اللّهتعالى ـ ونبحث مع الأشاعرة من جهتين:
الاُولى: في أنّ الصفات على نوعين: الأوّل: صفات الفعل، الثاني: صفات
- (1) البحار 4: 247، الحديث 5.
(صفحه 493)
الذات، وملاك التمايز بينهما أنّ كلّ صفة لا يصدق ضدّها على اللّه تعالى في أيّحالٍ من الحالات وأيّ زمان من الأزمنة، وبالنسبة إلى أيّ شيء من الأشياء،مثل صفة العلم والقدرة وأمثالهما فهي من صفات الذات، وأمّا الصفة التييصدق ضدّها عليه تعالى في بعض الحالات وفي بعض الأزمنة وبالنسبة إلىبعض الأشياء فهي من صفات الفعل، مثل صفة الخالقيّة والرازقيّة، فإنّه لميخلق ـ مثلاً ـ الإنسان الذي كان طول قامته سبعين ذراعاً في عين كونهمقدوراً له تعالى، فيصدق في هذا المورد ضدّ الخالقيّة عليه تعالى، وهكذا فيالرازقيّة كما قال في الآية الشريفة: «وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِىالرِّزْقِ»(1)، فيصدق على المرتبة النازلة منه عدم الرازقيّة بالنسبة إلى المرتبةالعالية منه.
على أنّ صفة الذات قديمة بقدم الذات، بخلاف صفة الفعل فإنّها حادثةٌ ولتتّصف بالقدم، ومن هنا نستكشف أنّ المتكلّميّة ليست من صفات الذات، بلتكون من صفات الفعل، ويدلّ قوله تعالى: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا»(2) علىأنّ التكلّم تحقّق في زمان خاصّ لا بعده ولا قبله، أي عدم التكلّم في غير ذلكالزمان، فالتكلّم من صفات الفعل بمقتضى الآية، فنفس الآية منافية للالتزامبالكلام النفسي القديم.
ويدلّ عليه ما رواه الكليني قدسسره في اُصول الكافي عن عليّ بن إبراهيمـ الموثّق ـ عن محمّد بن خالد الطيّالسي ـ الممدوح ـ عن صفوان بن يحيىـ الموثّق ـ عن ابن مسكان ـ الموثّق ـ عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبداللّه عليهالسلام
(صفحه494)
يقول: «لم يزل اللّه عزّ وجلّ ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم ـ أي كان اللّه تعالى عالممع أنّه لم يتحقّق المعلوم في الخارج ـ والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولمبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور ـ كما أنّ الإنسان قادر على القيام في حال قعودهمع أنّه لم يكن متحقّقاً ـ فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه علىالمعلوم والسمع على المسموع والبصر على المبصر والقدرة على المقدور»،قال: قلت: فلم يزل اللّه متحرّكاً؟ قال: فقال: «تعالى اللّه عن ذلك أنّ الحركةصفة محدثة بالفعل»، قال: قلت: فلم يزل اللّه متكلّماً؟ قال: فقال: «إنّ الكلامصفة محدثةٌ ليست بأزليّة، كان اللّه عزّ وجلّ ولا متكلّم»(1).
ويستفاد من ذلك أنّ صفة التكلّم تكون من الأوصاف الفعليّة والمحدثة علىالظاهر، وإن أمكن أن تكون للحديث توجيهات فلسفيّة.
الجهة الثانية: في أنّ عنوان المتكلّم هل يكون من المشتقّات الحقيقيّة أو منالمشتقّات الجعليّة؟ التكلّم يكون من باب تفعّل، لا شكّ في تحقّق الماضيوالمضارع وسائر المشتقّات له في هذا الباب، ولكن لم نجد له مصدر ثلاثيمجرّد، فإن قيل: هي عبارة عن «الكلم» قلنا: إنّه لو سلّمناه لا نرى له في اللغةالعربية فعل ماض ولا مضارع ولا سائر المشتقّات، مع أنّه ليس بمعنى الكلامبل هو بمعنى الجرح والجراحة لغة.
وعلى هذا ما معنى التكلّم؟ من المعلوم أنّ معناه إيجاد الكلام، ولفظ الإيجاديوجب تحقّق المعنى الاشتقاقي فيه، كما أنّ لفظ البيع يوجب تحقّق المعنىالاشتقاقي في كلمة «اللابن»، فحينئذٍ يصدق المتكلّم على اللّه تعالى، كما يصدقعلى الإنسان بلا فرق بينهما أصلاً، إلاّ أنّا نتكلّم باللسان، ولكنّه تعالى يوجد
- (1) الكافي 1: 107، الحديث 1.
(صفحه 495)
الكلام في موجود آخر بلحاظ عدم جسميّته.
ولا يتوهّم أنّ معنى المتكلّم هو الكلام؛ إذ ليس للكلام معنى مصدري بلاسم مصدر، ونعبّر عنه باللّغة الفارسيّة بـ «سخن» فلا يتصوّر له معنى سوىإيجاد الكلام.
وهذا الجواب موافق لنظر المعتزلة والمتكلّمين من الإماميّة، وقد ذكرنا فيصدر المسألة حكاية نظر بعض أهل التحقيق من أنّ تكلّمه تعالى يتحقّق مندون وساطة شيء من الأشياء، كتكلّمه تعالى مع موسى عليهالسلام بدون واسطةٍ،وقد مرّ أيضاً ما قال به الإمام الأعظم قدسسره بعد نفي هذه الأقوال: «إنّه تعالىمتكلّم والقرآن كتابه ونزل على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بالوحي، وأمّا كيفيّة الوحيوتكلّمه ممّا لم يصل إليها فكر البشر إلاّ الأوحدي الراسخ في العلم بقوّةالبرهان المشفوع إلى الرياضات ونور الإيمان».
ثمّ قال: يمكن أن نلتزم بالكلام النفسي، ولكنّ أفهام أصحاب الكلام منالمعتزلة والأشاعرة بعيدة عن طور هذا الكلام، فالإعراض عنه أولى.
ولكن ما ذكرناه في مقام الجواب عن الأشاعرة موافقاً لظاهر الآياتوالروايات يكفي في نفي الكلام النفسي، ولا نطيل الكلام في هذه المقولة أزيدمن ذلك.
ولا يخفى أنّ القول بتحقّق الكلام النفسي لايستلزم أن يكون الطلبوالإرادة متغايرين، كما أنّ إنكاره لا يستلزم القول بالاتّحاد بينهما، وإن استفيدذلك من كلام صاحب الكفاية قدسسره ـ كما أشرنا إليه في صدر المسألة ـ ولكنّهمبحثان مستقلاّن: أحدهما: بحث لغويّ، والآخر: كلامي، ولا ارتباط بينهمأصلاً. ونحن فرغنا بعون اللّه من البحث الكلامي.
(صفحه496)
وأمّا البحث اللّغوي وهو: أنّ لفظي الطلب والإرادة هل وضعا بإزاء مفهومواحد أو يكون لكلّ منهما معنى لا يكون للآخر؟ وقد مرّ ما ذكره المحقّقالخراساني قدسسره من: أنّهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد، وهما متّحدان في المفهوموالوجود الحقيقي والإنشائي والذهني، غاية الأمر أنّ لفظ الطلب ينصرف عندإطلاقه إلى وجوده الإنشائي، ولفظ الإرادة ينصرف إلى وجودها الحقيقي،وهذا لايوجب المغايرة بين اللفظين في المفهوم؛ إذ لا مانع من أن يكون اللفظانالمترادفان متغايرين من حيث الانصراف.
ولكنّ المحقّقين من الاُصوليّين بعد إنكارهم الكلام النفسي في البحث السابقيقولون بتعدّد مفهوم الطلب والإرادة، منهم اُستاذنا المرحوم السيّدالبروجردي قدسسره (1) حيث قال في الابتداء بعنوان ضابطة كلّيّة لما يتعلّق بهالإنشاء: إنّ الموجودات على قسمين: الأوّل: ما يكون له وجود حقيقي وواقعيفي الخارج، بحيث يكون بإزائه شيء فيه كالإنسان والحيوان والبياضونحوها، وهو لايقبل الإنشاء. الثاني: ما لا يكون كذلك بل يكون وجودهبوجود منشأ انتزاعه، وهو قد ينتزع عن الاُمور الحقيقيّة والواقعيّة كالفوقيّةوالتحتيّة ونحوها وهو أيضاً لا يقبل الإنشاء، وقد ينتزع عن الاعتباراتوالإنشائيّات كالملكيّة والزوجيّة وأمثال ذلك وهو يقبل الإنشاء، فالمعتبر فيالمنشأ ألاّ يكون من الاُمور الواقعيّة ولا متنزعاً منها، بل كان من الاُمورالاعتباريّة المحضة.
ثمّ قال: إنّ الإرادة من صفات النفس، والصفات النفسانيّة من الاُمورالحقيقيّة والواقعيّة فلا تقبل الوجود الإنشائي، بخلاف الطلب فإنّ له معنى قابل
- (1) نهاية الاُصول 1: 92 ـ 93.