(صفحه514)
وأمّا الاستفادة من نفس الاستعمال؛ بأنّ له كاشفيّة عقلائيّة وأماريّة عرفيّةلكونه ناشئاً عن الإرادة الحتمّية، فلا محالة يكون مفادها البعث والتحريكالوجوبي.
وفيه: أوّلاً: أنّ هذا ادّعاءٌ بلا دليل.
وثانياً: أنّ الكاشفيّة العقلائيّة والأماريّة العرفيّة متفرّعة على ثبوت وضعهللبعث والتحريك الوجوبي بأدلّة اُخر كالتبادر والانصراف؛ إذ لا معنى لهبدون منشأ وضعي أو انصرافي، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى هذا الوجه، بليثبت المدّعى قبل التمسّك به، فهذا يرجع إلى التبادر والانصراف، وأمّا معإنكار أدلّة اُخر ـ كما هو المفروض ـ لايكون منشأ للكشف المذكور، فإنّ مفادالهيئة ـ أي مطلق البعث والتحريك ـ يناسب الإرادة الحتميّة وغيرها، فلدلالة لصدور هيئة «افعل» على أنّ مفادها هو البعث والتحريك الوجوبي.
نعم تحقّق هنا دلالة عقليّة اُخرى، وهي أنّ صدور كلّ فعل اختياري عنالإنسان يدلّ بدلالة عقليّة على كونه مسبوقاً بالإرادة.
قلت: نعم هو مسبوق بنفس الإرادة، لا الإرادة الحتميّة، ومعلوم أنّ بينالإرادتين فرقٌ من حيث المراد، فإنّ هذه الإرادة متعلّقة بنفس هذا الفعلالاختياري وهو صدور الكلام منه، وأمّا الإرادة الحتميّة فمتعلّقة بتحقّقالمأمور به في الخارج من المأمور، فالكاشفيّة متحقّقة بالنسبة إلى إرادة صدورهيئة «افعل»، وهي متغايرة مع الإرادة الحتميّة المتعلّقة بتحقّق المأمور به منالعبد، فهذا الطريق أيضاً ليس بتامّ.
وأمّا الوجه الأخير الذي اختاره اُستاذنا السيّد الإمام والاُستاذ الأعظمالمرحوم البروجردي فتوضيحه: أنّ العقل يحكم بلزوم إطاعة الأوامر
(صفحه 515)
الصادرة من المولى، وأنّ صدور هيئة «افعل» من قبل المولى حجّة على العبدالتي لا يقبل معها عذره من احتمال كونها صادرة عن الإرادة الغير الحتميّة أوناشئاً عن المصلحة الغير الملزمة؛ إذ العقل يحكم بأنّ بعث المولى لا يترك بغيرجواب، فتمام الموضوع لحكم العقل والعقلاء بوجوب الطاعة والامتثال هونفس البعث مالم يرد فيه الترخيص.
وقال المرحوم البروجردي قدسسره (1): بل يمكن أن يقال: إنّ الطلب البعثي مطلقمنشأ لانتزاع الوجوب، ويكون تمام الموضوع لحكم العقلاء باستحقاق العقوبةعلى تركها، وأنّه معنى لا يلائمه الإذن في الترك بل يُنافيه؛ لوضوح عدم إمكاناجتماع البعث والتحريك نحو العمل مع الإذن في الترك المساوق لعدم البعث.
وحينئذٍ يجب أن يقال: إن الصيغ المستعملة في الاستحباب لا تكونمستعملة في الطلب البعثي إلاّ بداعي الإرشاد إلى وجود المصلحة الراجحة فيالفعل، وببالي أنّ صاحب القوانين(2) أيضاً اختار هذا المعنى فقال: إنّ الأوامرالندبيّة كلّها للإرشاد. وهو كلام جيّد.
وفيه: أوّلاً: أنّ هذا الوجه متفرّعٌ على إنكار الوجوه السابقة، وحاصله: أنّالوجوب اُخذ في ماهيّة البعث، ولذا لا يلائم الإذن في الترك حتّى من قبلالمولى. والإشكال أنّه لا شكّ في أنّ مفاد هيئة «افعل» هو البعث والتحريكالاعتباري، فإذا كان البعث مستلزماً للوجوب، فالمتبادر من الهيئة هو البعثوالتحريك الوجوبي ولا تصل النوبة إلى هذا الوجه، فإنّ البعث لا يكون إلوجوبيّاً على هذا المبنى.
- (1) نهاية الاُصول 1: 103 ـ 104.
- (2) قوانين الاُصول 1: 84 .
(صفحه516)
وثانياً: أنّ الإمام قدسسره صرّح بجواز الترخيص في الترك من قبل المولى، فهيئة«افعل» عنده تجتمع مع الإذن في الترك، وكذا تجتمع مع التهديد على التركوالمنع منه، فإذا كانت الهيئة معرّاة من كلا القيدين فما الدليل والملاك علىالحمل على القسم الثاني؟ وأنّ المراد منها هو البعث والتحريك الوجوبي حتّىيحتاج إلى الجواب بالامتثال والإطاعة، فلا يمكن المساعدة على هذا الوجهأيضاً، فلا يبقى دليل سوى التبادر للدلالة على الوجوب.
(صفحه 517)
(صفحه518)
في الجمل الخبريّة
المبحث الثالث
دلالة الجملة الخبريّة على الطلب والوجوب
إنّا نرى في كثير من الروايات بيان الحكم بصورة الجمل الخبريّة المضارعيّةكقوله عليهالسلام في جواب السائل: «يعيد صلاته ويغسل ثوبه ويتوضّأ»(1)، وأمّاستعمال الجمل الخبريّة الماضويّة في هذا المقام فليس إلاّ فيما إذا وقعت جزاءلشرط كقوله عليهالسلام : مثلاً «من تكلّم في صلاته أعاد»، وإنّما البحث والكلام في أنّهبعد المفروغيّة من عدم حملها على المعنى الحقيقي، أي الحكاية عن وقوع النسبةفي المضارع أو تحقّقها في الماضي فهل تدلّ على الوجوب أم لا؟
قال المحقّق الخراساني قدسسره (2): الظاهر الأوّل، بل تكون أظهر من الصيغة،ولكنّه لا يخفى أنّه ليست الجمل الخبريّة الواقعة في ذلك المقام ـ أي الطلب مستعملة في غير معناها، بل تكون مستعملة فيه، إلاّ أنّه ليس بداعي الإعلام،بل بداعي البعث بنحو آكد، حيث إنّه أخبر بوقوع مطلوبه إظهاراً بأنّه ليرضى إلاّ بوقوعه، فيكون آكد في البعث من الصيغة، كما هو الحال في الصيغالإنشائيّة، على ما عرفت من أنّها أبداً تستعمل في معانيها الإيقاعيّة لكن
- (1) الوسائل 3: 466، 477، 479 و 482، الباب 37، 41، 42 و 44 من أبواب النجاسات.
- (2) كفاية الاُصول 1: 104.