(صفحه 509)
والتحريك الوجوبي أم لا؟ ويستفاد من كلام اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1)الاستحالة إلاّ في بعض الصور، ولكن لابدّ لنا من ذكر مقدّمة توضيحلكلامه قدسسره ، وهي:
أنّه قد مرّ في باب الحروف أنّ الوضع في الحروف عامّ، وأمّا الموضوع لهوالمستعمل فيه فكانا خاصّين فيها، بخلاف ما قاله به صاحب الكفاية قدسسره من أنّكلّ واحد من المستعمل فيه والموضوع له فيها كالوضع عامّ، وقلنا: إنّ هذا منالمشترك اللفظي الذي يكون اللفظ الواحد لمعاني لاتعدّ ولا تحصى، فكلمة«من» وضعت لمصاديق الابتداء لا لمفهومه الكلّي، ومرّ أيضاً أنّ المعانيالحرفيّة واقعيّات محتاجة إلى شيئين، وكان مقام وجودها أدنى من مقام وجودالأعراض، ولكنّ الحروف على قسمين: أحدهما: الحكائيّة مثل «من» و«إلى»و «في»، وثانيهما: الإيجاديّة مثل «واو القسم» و «ياء النداء» وكما أنّ الحروفالحكائيّة لا تحكي إلاّ عن المعاني الجزئيّة كذلك الحروف الإيجاديّة لا يوجدبها إلاّ المعاني الجزئيّة. ويلحق بالحروف في خصوصيّة المعنى وجزئيّته وسائرأحكام الهيئات، وهي أيضاً على قسمين: الحكائيّة كهيئة فعل الماضيوالإيجاديّة كهيئة «افعل»، فعلى هذا وضعت هيئة «افعل» لمصاديق البعثوالتحريك الاعتباري لا لمفهومه الكلّي، ومعلوم أنّ مفاد هيئة «افعل» متقوّمبشيئين ـ أي الباعث والمبعوث ـ فتعامل معها معاملة الحروف.
ثمّ قال الإمام قدسسره بعد ما عرفت من المقدّمة: إنّ هيئة «افعل» لو دلّت علىالوجوب بالدلالة الوضعيّة يتصوّر لها ثلاث صور: إحداها: أن يقيّد البعثوالتحريك الاعتباري بمفهوم الإرادة الحتميّة، وهو مستحيل، فإنّك عرفت أنّ
- (1) تهذيب الاُصول 1: 137 ـ 141.
(صفحه510)
مفاد الهيئة جزئيّ فكيف يمكن تقييد المعنى الجزئي بالمفهوم الكلّي؟! والثانية: أنيقيّد البعث والتحريك الاعتباري بوجود ومصداق الإرادة الحتميّة، وهو أيضمستحيل، فإنّه تقييد المعلول بعلّته؛ إذ البعث والتحريك معلول للإرادة ولوبمراتب، فلو تقيّد البعث بوجوده الخارجي بوجود الإرادة الحتميّة لزم كونالمتقدّم متأخّراً أو المتأخّر متقدّماً.
نعم، هناك تصوير آخر وإن كان يدفع به الاستحالة في مقام الثبوت، إلاّ أنّالتبادر والتفاهم في مقام الإثبات على خلافه، فإنّه قد مرّ آنفاً أنّ الوضع فيباب الحروف عامّ والموضوع له خاصّ بأنّ الواضع حين الوضع يتصوّر معنىعامّاً كلّيّاً فيضع اللفظ لمصاديقه. إنّما الكلام في أنّ هذا المعنى العامّ الكلّيالمتصورّ هل يكون معنى حرفيّاً حتّى يكون جامعاً ذاتيّاً للمصاديق أو يكونمعنى اسمّياً حتّى يكون جامعاً عرضيّاً لها؟ ولابدّ من القول بكونه معنى اسمّياً؛لأنّ تصوّر هذا المفهوم العامّ لا يحتاج إلى شيئين، مع أنّ المعنى الحرفي الجزئيلا يقبل الجامعيّة، فيكون هذا المعنى العامّ معنى اسميّاً وجامعاً عرضيّاً للمعانيالحرفيّة، فيتصوّر الواضع حين الوضع معنى كلّيّاً اسميّاً بعنوان جامع عرضيللمعاني الحرفيّة، وهكذا في باب هيئة «افعل» يتصوّر الواضع مفهوم الكلّيللبعث والتحريك الاعتباري ووضع الهيئة لمصاديقه، فإذا كان المتصوّر أمركلّيّاً فلا إشكال في تقييده، فالمتصوّر عبارة عن البعث والتحريك الاعتباريالناشئ من الإرادة الجدّيّة والحتميّة، فالكلّي قد قيّد بكلّي آخر، ولا استحالةفي مقام الثبوت، ولكنّ المتبادر من الهيئة لدى العرف في مقام الإثبات هو كلّيالبعث والتحريك الاعتباري لا المقيّد. هذا تمام كلام الإمام قدسسره مع توضيحه.
ولكن يستفاد من كلامه قدسسره صدراً وذيلاً مالا يكون قابلاً للالتزام، وهو أنّ
(صفحه 511)
البعث والتحريك في نفسه لا ينقسم إلى قسمين، بل الانقسام يكون باعتبارالمنشأ والعلّة؛ بأنّ الإرادة إن كانت قويّة وشديدة يكون البعث والتحريكوجوبيّاً، وإن كانت ضعيفة يكون البعث والتحريك استحبابيّاً، مع أنّ ماهيّةالبعث والتحريك الاعتباري تنقسم إلى قسمين مع قطع النظر عن المنشوالعلّة، كما أنّ البعث والتحريك التكويني والخارجي يكون كذلك.
على أنّ وجود الاختلاف والانقسام في المنشأ والعلّة لايدلّ على عدمه فيالمعلول.
ويؤيّده أنّ المولى إذا قال لعبده: «اشتر اللحم وإلاّ عاقبتك»، وإمّا إذا قال:«وإن شئت إشتر الخبز» فلا شكّ في أنّ العرف والعقلاء يفهمون منهما نوعانمن البعث والتحريك بدون الالتفات إلى المنشأ والعلّة، فالبعث والتحريكالاعتباري كالإرادة ينقسم إلى قسمين، وحينئذٍ لا يبعد ادّعاء تبادر نوعواحد من البعث والتحريك الاعتباري من الهيئة في مقام الإثبات.
فالحقّ في مقام الثبوت مع اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره ، وأمّا في مقام الإثباتفمع المحقّق الخراساني قدسسره ، فإذا كان البعث والتحريك منقسماً إلى قسمين لا يبعدالقول: بأنّ المتبادر من الهيئة هي المرتبة الشديدة من البعث والتحريك. هذتمام الكلام في مسألة التبادر.
وأمّا دعوى الانصراف الناشئ من كثرة استعمال اللّفظ في معنى وتحقّقالارتباط والاستئناس بين اللفظ والمعنى بحيث ينسبق هذا المعنى إلى الذهنعند إطلاق اللفظ فيدّعي في المقام أنّ هيئة «افعل» كثير مّا استعملت فيالوجوب وهو يوجب الانصراف إليه في جميع الموارد هل هو صحيح أم لا؟
وكان لصاحب المعالم قدسسره (1) كلام يوجب التزلزل في الانصراف، وهو أنّه بعد
(صفحه512)
إقامة الأدلّة لكونها حقيقة في الوجوب قال: يستفاد من تضاعيف أحاديثنالمرويّة عن الأئمّة عليهمالسلام أنّ استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعاً في عرفهم؛بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقةعند انتفاء المرجّح الخارجي، فيشكل التعلّق والتمسّك في إثبات وجوب الأمربمجرّد ورود الأمر به منهم عليهمالسلام .
والحاصل: أنّ المجاز الراجح والمشهور يوجب التقدّم على المعنى الحقيقي،ولا أقلّ من التوقّف وعدم الحمل على خصوص أحدهما، فهذا الادّعاءمعارضٌ لادّعاء الانصراف إلى الوجوب.
وقال المحقّق الخراساني قدسسره (1) في مقام جواب صاحب المعالم: إنّ كثرةالاستعمال في الندب في الكتاب والسنّة وغيرهما لا توجب نقله إليه أو حملهعليه؛ لكثرة استعماله في الوجوب أيضاً، مع أنّ الاستعمال وإن كثر فيه إلاّ أنّهكان مع القرينة المصحوبة، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا يوجبصيرورته مشهوراً فيه ليرجّح أو يتوقّف، على الخلاف في المجاز المشهور. فلذدعوى الانصراف إلى الندب بعنوان المجاز المشهور غير صحيح.
والتحقيق: أنّ هذا يكفي في مقام جواب صاحب المعالم قدسسره ، ولكن لا يثبتبه ادّعاء الانصراف إلى الوجوب كما لا يخفى. فلا دليل لهذا الادّعاء.
وأمّا الاستفادة من مقدّمات الحكمة كما مرّ تفصيله في مادّة الأمر عن المحقّقالعراقي قدسسره (2) بأنّ المولى إذا كان في مقام البيان لا في مقام الإجمال أو الإهمال ولمينصب قرينة على الندب ولم يكن قدر متيقّنٍ في مقام التخاطب فلابدّ من حمل
- (1) كفاية الاُصول 1: 104.
- (2) نهاية الأفكار 1: 160 ـ 163.
(صفحه 513)
الهيئة على الوجوب، فإنّ الوجوب عبارة عن الطلب فقط، ولا يحتاج إلى قيدومؤونة زائدة، بخلاف الندب فإنّه عبارة عن الطلب أو البعث والتحريك معقيد زائد وهو الإذن في الترك، فيستفاد من مقدّمات الحكمة الإطلاق، ونتيجتهالحمل على الوجوب، كما أنّ نتيجة الإطلاق وجريان مقدّمات الحكمة في مثل«اعتق رقبة» هو الحمل على مطلق الرقبة، وعدم دخالة قيد الإيمان فيها.
وجوابه: أوّلاً: ما ذكرناه في بحث مادّة الأمر، وهو أنّه لا يعقل أن يكونالقسم عين المقسم، فإذا كان الطلب أو البعث والتحريك مقسماً للوجوبوالندب، فلا يعقل أن يكون أحد القسمين ـ أي الوجوب مثل البعثوالتحريك ـ مقسماً، بلا قيد زائد، بل لابدّ في كلّ قسم من خصوصيّة زائدة علىالمقسم.
وثانياً: أنّ نتيجة الإطلاق ـ في مثل اعتق رقبة ـ وهو الحمل على الموضوعله وماهيّة الرقبة بعد القطع بأنّ الموضوع له هو مطلق الرقبة بدون دخالة قيدالإيمان فيه أصلاً، وأمّا جريان مقدّمات الحكمة في هيئة «افعل» فمتفرّعٌ علىعدم قبول التبادر والانصراف، وإلاّ لا مجال للتمسّك بالإطلاق، فإنّ التبادروالانصراف قرينتان للتقييد بالوجوب، وهكذا متفرّع على إحراز الموضوع لهقبل التمسّك بالإطلاق، وإلاّ لا مجال للتمسّك به، فلابدّ من القول بأنّ الموضوعله هو مطلق البعث والتحريك، وأنّ هيئة «افعل» وضعت لمطلق البعثوالتحريك، فنتيجة الإطلاق وجريان مقدّمات الحكمة هو الحمل على مطلقالبعث والتحريك ـ أي القدر المشترك ـ لا الحمل على الوجوب.
ومعلوم أنّه لا إجمال هنا، كما أنّه لا إجمال فيما إذا قلنا بالمشترك المعنوي،ووضع اللفظ للقدر المشترك بين المعنيين، فهذا الاستدلال أيضاً ليس بتام.