(صفحه524)
بخلاف أمر الفقيه للمقلّد، فإنّ ماهيّة هذا الأمر وحقيقته مغايرة لحقيقة أمرالطبيب؛ لأنّ معنى قوله: «اغتسل للجنابة» أنّي أظنّ حسب اجتهادي ومأدّى إليه اجتهادي أنّ اللّه تعالى حكم بوجوب غسل الجنابة، وهكذا أمرالنبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام ـ بصلاة الجمعة ـ مثلاً ـ معناه أنّا نعلم أنّ اللّه تعالى أوجبصلاة الجمعة، فحقيقة هذه الأوامر أوامر مولويّة تبعيّة كالأمر الصادر عنالوكيل.
ويشهد على ذلك ما ذكره المرحوم البروجردي قدسسره (1) في مقدّمة كتاب جامعأحاديث الشيعة: من أنّ الأئمّة عليهمالسلام كان عندهم كتاب مدوّن بإملاء رسولاللّه صلىاللهعليهوآله وخطّ عليّ بن أبي طالب عليهالسلام وفيه جميع سنن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وما أمر اللّهبتبليغه إلى اُمّته من المعارف الإلهيّة والأحكام الدينيّة، ثمّ ذكر روايات متعدّدةلتأييد ذلك واستفاد منها: أنّ ما عند الأئمّة عليهمالسلام من علم الحلال والحراموالشرائع والأحكام نزل به جبرئيل عليهالسلام وأخذوه من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، فتحرمعلى الاُمّة مخالفتهم في الحكم والفتوى؛ لأنّ ما عندهم أوثق ممّا عند غيرهم،فكلّ ما قال به الأئمّة عليهمالسلام أحاديث مسندة إلى اللّه تعالى وإن لم يذكروا السندكثيراً، فأوامرهم أوامرٌ مولويّة ظاهرة في الوجوب، مثل أوامر الباري تعالى.
- (1) جامع أحاديث الشيعة 1: 7.
(صفحه 525)
(صفحه526)
في الواجب التعبّدي والتوصّلي
المبحث الرابع
في الواجب التعبّدي والتوصّلي
قال المحقّق الخراساني قدسسره (1): إنّ إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوبتوصّليّاً فيجزي إتيانه مطلقاً ولو بدون قصد القربة أو لا؟ فلابدّ من الرجوعفيما شكّ في تعبّديّته وتوصليّته إلى الأصل. ولابدّ في تحقيق ذلك من تمهيدمقدّمات: إحداهما: الوجوب التوصّلي: هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرّدحصول الواجب ويسقط بمجرّد وجوده، بخلاف التعبّدي فإنّ الغرض منهلايكاد يحصل بذلك، بل لابدّ في سقوطه وحصول غرضه من الإتيان به متقرّببه منه تعالى... الخ.
توضيح ذلك: أنّه متى اُحرز أنّ هذا الشيء واجب ولكن لا نعلم أنّ وجوبهمن قبيل الواجب التعبّدي أو التوصّلي، فهل يمكن بعد اليأس من الدليلالتمسّك بالإطلاق اللفظي أو المقامي لنفي التعبّديّة أم لا؟ وعلى الثاني هليقتضي الأصل العملي البراءة عن التعبّديّة أو يقتضي الاشتغال؟ ثمّ ذكر مسائلمثل الواجب التعبّدي والتوصّلي وافتراق أحدهما عن الآخر بعنوان المقدّمة.
- (1) كفاية الاُصول 1: 107.
(صفحه 527)
ولكنّ التحقيق: أنّ جعله مسألة الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة أصلاً وعنوانللبحث، وسائر المسائل فرعاً ومقدّمة لهذه المسألة، ممّا لا وجه له، فإنّ جميعالمسائل المبحوث عنها تحت هذا العنوان تكون من المسائل المهمّة، ولا يكونلإحداها عنوان الأصالة وللاُخرى عنوان الفرعيّة كما لا يخفى. ونحن نبحثهبعون اللّه تعالى بحسب الترتيب للتفصّي عن الإشكال:
الأوّل: تقسيم الواجب إلى التعبّدي والتوصّلي، وما يلاحظ في كلماتالاُصوليّين بالنسبة إلى هذا التقسيم عبارة عن نكتتين: إحداهما: أنّ التقسيمثنائي ذو طرفين، والاُخرى: جعل عنوان التوصّليّة في مقابل عنوان التعبّديّة،مع أنّه لا يصحّ الجمع بين هاتين النكتيين في كلمات القوم والأعاظم، ولابدّ منالإعراض عن إحداهما.
والدليل على هذه الدعوى أنّ ما كان له عنوان المقدّمة للبحث، وهو أنّلفظ التعبّدي بحسب الظاهر واللغة عبارة عن عبادة الغير، ومعلوم أنّ صرفالإتيان بالعمل مع قصد القربة لا يوجب صدق عنوان العبادة وإن كان موجبللتقرّب إلى اللّه وترتّب الثواب الزائد عليه، ولذا لا تصدق العبادة على إطاعةالوالدين، وتطهير الثوب وإعطاء الزكاة وأمثال ذلك، وإن تحقّقت هذه الأعمالبقصد القربة، فالعبادة محدودة لحدّ خاصّ، والتضيّق مأخوذ في مفاده ومعناه.
وأمّا البحث عن طريق استكشاف عباديّة العمل فقال البعض: إنّ بعضالأعمال عبادة ذاتاً، مثل السجدة للغير فإنّها ملازمة للعبادة، سواء كانتللإنسان أو للصنم أو للّه تعالى.
ولكنّ التحقيق: أنّ السجدة ليست كذلك، بل قد يكون لها عنوان العباديّة،وقد يكون لها عنوان غير العباديّة، ويشهد على ذلك أمر الباري للملائكة
(صفحه528)
بالسجود لآدم عليهالسلام ، ومعلوم أنّ سجودهم له ليست عبادة وإلاّ لابدّ من القولبالتخصيص في الشرك في العبادة، مع أنّ الآية الشريفة: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنيُشْرَكَ بِهِى»(1) غير قابلة للتخصيص، فالسجدة لآدم ليست بعبادة له، بلكانت عملاً مأمور بها من الباري تعالى، فالطريق المنحصر لاستكشافعباديّة الأعمال عبارة عن بيان الشارع وتصريحه بها.
والحاصل: أنّ كلّ عمل واجب ليس بعبادة وإن كان إتيان العمل بقصدالقربة، ولذا يقال للمصلّي: إنّه مشغول في العبادة، ولا يقال لمن كان في مقامأداء الزكاة أو إطاعة الوالدين: إنّه مشغول في العبادة، ولا دخل لما أضاف إليهكلمة العبادة في معناها فأخذ معنى خاصّاً في مفهوم العبادة زائداً على قصدالقربة، فكانت ههنا ثلاثة عناوين: الأوّل: العنوان التعبّدي، الثاني: العنوانالتقرّبي. الثالث: عنوان الإطاعة.
ولا شكّ في أنّ العنوان التقرّبي أعمّ من العبادة، وعنوان الإطاعة وإناستعمل في لسان الاُصوليّين فيما يعتبر فيه قصد القربة، ولكنّه لغة أعمّ منالعنوان التقرّبي، فإنّ أمر اللّه تعالى بإطاعة الرسول صلىاللهعليهوآله في آية «أَطِيعُواْ اللَّهَوَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ»(2) أمر مولويّ بإطاعته، ولكن لا يعتبر في إطاعته قصدالقربة، وهكذا أمره صلىاللهعليهوآله الأنصاري بقلع نخلة سمرة بن جندب أمر مولويّ ليعتبر فيه قصد القربة.
وبالنتيجة: التقسيم الشائع في كلمات الاُصوليّين للواجب بأنّه إمّا تعبّديوإمّا توصّلي ليس بصحيح، فلابدّ لنا من الإعراض عن أحد الأمرين، إمّا من