(صفحه 531)
قول الشيخ وتلامذته في المقام فلايمكن التمسّك بإطلاق دليل الوجوب، فإنّهلايجري في مورد كان التقييد مستحيلاً، كما سيأتي تفصيله، وإن اخترنا القولالأوّل في المسألة فيمكننا التمسّك به كالشكّ في سائر الأجزاء والشرائط.
إذا عرفت هذا فلنشرع البحث بذكر أدلّة القولين
قال الشيخ الأعظم قدسسره : إنّ القيود والأوصاف الدخيلة في المأمور به علىقسمين: الأوّل: ما يمكن اتّصاف المأمور به والواجب به قبل تعلّق الأمر، مثلالسورة والطهارة للصلاة؛ إذ يمكن تحقّق الصلاة ـ مع قطع النظر عن تعلّقالأمر ـ معهما وبدونهما لا مانع من الجزئيّة والشرطيّة لهذا السنخ من القيود فيمقام تعلّق الأمر. الثاني: مالا يمكن اتّصاف المأمور به والواجب به قبل تعلّقالأمر، مثل عنوان المأمور به والواجب والمستحبّ؛ إذ لا يمكن إطلاقه علىالمركّب من الأجزاء والشرائط قبل توجّه الأمر إليه، وقصد القربة أيضاً منقبيل هذه الأوصاف، فإنّ معناه إتيان العمل بداعي الأمر والامتثال بقصدالأمر كما هو المشهور، ولا يمكن إتيان الصلاة المقيّدة بداعي الأمر قبل تعلّقالأمر بها، بل هذا أمر مستحيل.
نعم، قد يكون المراد من قصد القربة إتيان العمل بداعي كونه محبوبللمولى، وقد يكون بمعنى إتيان العمل بداعي المصلحة الملزمة، وقد يكونبمعنى إتيان العمل بداعي كونه حسناً، وقد يكون بمعنى إتيان العمل بداعيحصول التقرّب بسببه إلى المولى، ولكن مراد الشيخ وتلامذته هو الأوّل،وأنّهم من القائلين بالاستحالة في المقام، مع اختلافهم في أنّ المقصود منالاستحالة الاستحالة بالذات أو الاستحالة بالغير.
وتوضيح ذلك: أنّه كما في باب الواجب قسم منه واجب الوجود بالذات
(صفحه532)
ـ مثل وجود الباري تعالى ـ وقسم منه واجب الوجود بالغير ـ مثل وجوبالوجود للمعلول ـ وهكذا في باب الممتنع والمستحيل، قسم منه مستحيلٌبالذات، مثل اجتماع النقيضين، ولعلّه ينتهي ويرجع جميع المحالات إليه كما قالبعض المحقّقين، وقسم منه مستحيل بالغير، مثل استحالة تحقّق المعلول بدونالعلّة.
فإنّا نبحث ابتداء من أدلّة القائلين بالاستحالة الذاتيّة حسب الترتيب، ثمّأدلّة القائلين بالاستحالة بالغير وإن ثبت إحداهما يثبت المطلوب، وهواستحالة أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر.
منها: أنّ النسبة المتحقّقة بين العرض والمعروض في التكوينيّات بعينهمتحقّقة بين الحكم والمتعلّق في الشرعيّات، مثلاً: إذا عرض البياض علىالجسم فالنسبة الحاصلة بينهما عبارة عن التقدّم والتأخّر الرتبي؛ إذ المعروضمستقلّ في الوجود والعرض يحتاج إليه، وهكذا في مثل الصلاة والأمر المتعلّقبها، وكان للصلاة عنوان المعروضيّة والتقدّم الرتبي على الأمر، وللأمر عنوانالعرضيّة والتأخّر الرتبي عن الصلاة.
وبالنتيجة: أنّه لا مانع من تقدّم الأجزاء والشرائط للصلاة من حيث الرتبةعلى الأمر بها، وأمّا قصد الأمر فمتأخّر عن الأمر ويتوقّف عليه، ولازم أخذهفي المتعلّق أن يكون متقدّماً على الأمر ومتأخّراً عنه في آنٍ واحد، وهذمستحيلٌ بالذات.
وجوابه: أنّ ما ذكر في باب العرض والمعروض في التكوينيّات صحيح بلإشكال، ولكنّ المقايسة بينه وبين الأحكام والمتعلّقات في الشرعيّات ليسبصحيح، فإنّا نقول: هل المراد من الحكم هي الإرادة التي كانت من الواقعيّات
(صفحه 533)
النفسانيّة أو البعث والتحريك الاعتباري الذي كان مفاد هيئة «افعل»؟ فإنكان المراد منه هو الأوّل فإنّا نسلّم بأنّ الإرادة الواقعيّة غير قابلة للإنكار،ونسلّم أيضاً أنّه يحتاج في التحقّق إلى المراد، كما أنّ العرض يحتاج إلىالمعروض ومتقوّم به، فإنّ كليهما من اُمور ذات الإضافة، فلا يعقل تحقّقالإرادة بدون المتعلّق والمراد، إلاّ أنّ البحث في أنّ المقصود من متعلّق الإرادةما هو؟ فهل هو المراد الخارجي؟ وهو ليس بصحيح؛ لأنّه يتحقّق بعد الإرادةبمدّة مديدة.
وهذا البحث يجري بعينه في باب العلم، فإنّا نعلم ـ مثلاً ـ بتحقّق يومالجمعة بعد ثلاثة أيّام، فالعلم متحقّق الآن بدون المعلوم، مع أنّه واقعيّةنفسانيّة يحتاج في تحقّقه إلى المعلوم.
ولكنّ حلّ الإشكال في باب العلم بأنّه كان للعالم معلوم بالذات ومعلومبالعرض، والمعلوم بالعرض عبارة عن الموجود في الخارج، والمعلوم بالذاتعبارة عن الصورة الذهنيّة الحاصلة في الذهن من يوم الجمعة، فالمعلوم للعالمحين العلم، ومتعلّق علمه عبارة عن المعلوم بالذات، وهكذا في باب الإرادة،فيكون متعلّق الإرادة قبل تحقّق المراد في الخارج عبارة عن الصورة الذهنيّةللمراد الموجودة في حال الإرادة، وحينئذٍ يظهر الجواب من مقايسة نسبةالحكم والمتعلّق مع الجسم والبياض؛ بأنّه إذا كان الحكم بمعنى الإرادة فلا يلزمأن يكون متعلّقها متحقّقاً في الخارج؛ إذ المتعلّق عبارة عن الصورة الذهنيّةللمراد، ولا مانع من جعل المولى الصورة التي كانت موجودة في ذهنه ومقيّدةبقصد الأمر متعلّقاً للأمر، ولا استحالة في البين.
وأمّا إن كان الحكم بمعنى البعث والتحريك الاعتباري ـ كما هو المشهور ـ
(صفحه534)
فلا تعقل المقايسة بين الحكم ومتعلّقه مع العرض والمعروض؛ لأنّ المعروضواقعيّة مستقلّة من حيث الوجود، وله تقدّم رتبةً على العرض ـ أي الواقعيّةالغير المستقلّة في الوجود ـ ولا معنى للتقدّم والتأخّر في الاُمور الاعتباريّة،فالمولى في مقام الأمر يتصوّر الصلاة المقيّدة بقصد الأمر، ثمّ يجعل المقيّد متعلّقللبعث والتحريك الاعتباري، وكما أنّه لا مانع في تصوّر الصلاة قبل الأمركذلك لا مانع من تصوّر قصد الأمر قبله.
ويؤيّد عدم قابليّة مقايسة الأحكام بالأعراض أنّ الجسم في حال كونهمعروضاً للبياض لا يعقل أن يكون معروضاً للسواد ولو من قبل الشخصين،وأمّا في باب الأحكام والمتعلّقات فيمكن أن يكون السفر ـ مثلاً ـ مورداً لأمرالوالد ونهي الوالدة في آنٍ واحد، فاجتماع العرضين المتضادّين في معروضواحد وآنٍ واحد مستحيل ولو من ناحية الشخصين، بخلاف الأحكام.
ومن أدلّة القائلين بالاستحالة الذاتيّة لزوم الدور في المسألة، وتقريب ذلكأنّه لا شكّ في توقّف قصد الأمر على الأمر؛ إذ لا معنى لتحقّق قصد الأمرالخارجي والحقيقي بدون الأمر، وهكذا لا شكّ في توقّف وجوب المكلّف بهعلى قدرة المكلّف، فالأمر متوقّف بالقدرة على المتعلّق، والقدرة على المتعلّقمتوقّفة على الأمر بعد فرض أخذ قصد الأمر في المتعلّق، وهذا دور مستحيلٌبالذات.
أقول: في مقام الجواب عن هذا: أوّلاً: أنّ اعتبار القدرة على المأمور به فيظرف تحقّق الامتثال كاف، سواء كان في زمان الأمر وظرف التكليف مقدورأم لا، والعقل لا يحكم أزيد من ذلك.
وثانياً: أنّ العقل يحكم بوجود القدرة وإن كانت من نفس الأمر، كما إذا أمر
(صفحه 535)
أحد المراجع ـ مثلاً ـ شخصاً بالسفر إلى مكّة وهو غير قادر على ذلك، ولكنلهذا الأمر جهّزه المتديّنون بالزاد والراحلة، وهذا كافٍ في تحقّق القدرة، فنحنسلّمنا أنّه لا يعقل تحقّق قصد الأمر بدون الأمر في الخارج، ولكنّ الأمر بشيءلا يتوقّف على تحقّق القدرة عليه قبله؛ إذ لا مانع من تحقّق القدرة بعد الأمرأيضاً.
ومن أدلّتهم أيضاً اجتماع اللحاظين الاستقلالي والآلي في آنٍ واحد في شيءواحد، توضيح ذلك: أنّه لابدّ للمولى حين الأمر من لحاظ الأمر والمأمور به،ومن المعلوم أنّ لحاظ الأمر يكون لحاظاً آليّاً؛ لأنّه وسيلة لتحقّق المأمور به،وأمّا لحاظ المأمور به بجميع الأوصاف والخصوصيّات فيكون لحاظاستقلاليّاً، فإذا كان قصد الأمر داخلاً في المتعلّق فلابدّ من ملاحظة المضافوالمضاف إليه مستقلاًّ، فالأمر تعلّق به لحاظان: لحاظ آلي ولحاظ استقلالي،والجمع بين اللحاظين في آنٍ واحد مستحيل ذاتاً.
وجوابه: سلّمنا أنّ الأمر بما أنّه وسيلة لتحقّق المأمور به يتعلّق به لحاظآلي، وبما أنّه جزء المتعلّق يتعلّق به لحاظ استقلالي، ولكن لا يكون اللحاظانفي آنٍ واحد، فإنّه ملحوظ بالاستقلال في رتبة المتعلّق وملحوظٌ بالآليّة فيرتبة نفسه، ولا استحالة في البين.
والمهمّ من الأدلّة ما ذكره المحقّق النائيني قدسسره (1) في المقام، ومحصّل كلامه: أنّالقضايا إمّا طبيعيّة وإمّا حقيقيّة وإمّا خارجيّة، والطبيعيّة ما كان الموضوع فيهعبارة عن الماهيّة مثل «الإنسان حيوان ناطق»، والحقيقيّة ما كان الموضوعفيها عبارة عن الأفراد، سواء كان الأفراد محقّقة الوجود أو مقدّرة الوجود،
- (1) أجود التقريرات 1: 106 ـ 108.