(صفحه536)
والخارجيّة ما كان الموضوع فيها عبارة عن أفراد محقّقة الوجود، ولكنّ نوعالقضايا المتضمّنة لبيان الأحكام الشرعيّة قضايا حقيقيّة، مثل «المستطيع يجبعليه الحجّ»، إلاّ أنّ القضايا الحقيقيّة ترجع إلى قضايا شرطيّة مقدّمها وجودالموضوع وتاليها ثبوت المحمول له، وقولنا: «المستطيع يجب عليه الحجّ» يرجعإلى قولنا: «إذا وجد في الخارج شخص وصدق عليه أنّه مستطيع وجب عليهالحجّ»، وكلّ قيد في القضايا الحقيقيّة إذا اُخذ مفروض الوجود في الخارجـ سواء كان اختياريّاً كالعهد والنذر والاستطاعة أم كان غير اختياريكالوقت والبلوغ ـ يستحيل تعلّق التكليف به، ومن البديهي أنّ مثل هذهالقيود إذا اُخذت في مقام الجعل فلا محالة أنّها اُخذت مفروضة الوجود فيالخارج؛ بأنّ المولى فرض وجودها أوّلاً ثمّ جعل الحكم عليها، فمثل قولهتعالى: «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ»(1) ونحوه يرجع إلى أنّه إذا فرض وجود عقد فيالخارج يجب الوفاء به، لا أنّه يجب على المكلّف إيجاد عقد في الخارج والوفاءبه، ومثل قوله: «إذا زالت الشمس فصلّ» يرجع إلى أنّه متى تحقّق وقت الزوالـ مثلاً ـ فالصلاة واجبةٌ، لا وجوب الصلاة ووجوب تحصيل الوقت.
والحاصل: أنّ كلّ قيد إذا اُخذ في مقام الجعل مفروض الوجود فلا يعقلتعلّق التكليف به، سواء كان اختيارياً أم لا، ومقامنا من هذا القبيل، فإنّ قصدالأمر إذا اُخذ في متعلّقه فلا محالة يكون الأمر موضوعاً للتكليف ومفروضالوجود في مقام الإنشاء، فيلزم عندئذ كون الأمر مفروض الوجود قبل وجودنفسه وتحقّق شيء في رتبتين ـ أي رتبة المتعلّق بما أنّه جزء ورتبة نفسه ومرجعه إلى اتّحاد الحكم والموضوع.
(صفحه 537)
وبالنتيجة إن اُخذ داعي الأمر متعلّقه يستلزم اتّحاد الحكم والموضوع فيمقام الجعل، وتوقّف الشيء على نفسه في مقام الفعليّة، وكلاهما مستحيل وكانفي كلام المحقّق النائيني قدسسره نقاط إبهام.
الاُولى: أنّ ادّعاء كون نوع القضايا المتضمّنة لبيان الأحكام الشرعيّةبصورة القضايا الحقيقيّة ليس بصحيح، فإنّ القضيّة الحقيقيّة عبارة عن القضيّةالحمليّة الخبريّة، وهذا لا ينطبق على أكثر أدلّة العبادات والمعاملات، مثلقوله تعالى: «وَ أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَ ءَاتُواْ الزَّكَوةَ»(1)، «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ»(2)،«وَ أَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْـءُولاً»(3)، وأمثال ذلك.
الثانية: أنّه على فرض تسليم كون الأدّلة المذكورة بصورة القضايا الحقيقيّةولكنّ ما ذكره ثانياً من أنّ القضايا الحقيقيّة ترجع إلى القضايا الشرطيّة ليسبصحيح؛ إذ يمكن إرجاع بعض القضايا الحقيقيّة إلى الشرطيّة كالمثال المذكورفي كلامه قدسسره يعني المستطيع يجب عليه الحجّ، بقولنا: «أيّها المكلّفون، إذاستطعتم يجب عليكم الحجّ»، وأمّا سائر الأدلّة، مثل: «وَ أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»فلايمكن إرجاعها إلى القضيّة الشرطيّة؛ إذ لا يتصوّر فيها الشرط والجزاءوالمقدّم والتالي.
ومن هنا نستكشف قاعدة كلّيّة لإرجاع القضايا الحقيقيّة إلى الشرطيّة،وهي أنّ كلّ قضيّة كان المكلّف فيها معنوناً بعنوان خاصّ لا مانع منإرجاعها إلى الشرطيّة، مثل: قوله تعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
(صفحه538)
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(1)، وكان ههنا للمكلّف عنوان خاصّ، وهو عنوانالمستطيع الذي بيّنته جملة «من استطاع إليه سبيلاً»، وهذا العنوان موضوعللتكليف الوجوبي الذي بيّنته كلمتي «للّه» و«على»، والمتعلّق الذي بيّنته كلمتي«حجّ البيت» غير الموضوع.
وأمّا في مثل قوله تعالى: «وَ أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» الذي ليس فيه للمكلّفعنوان خاصّ حتّى نجعله الموضوع للتكليف، فلا يمكن إرجاعه إلى القضيّةالشرطيّة؛ إذ لا يتصوّر الشرط فيه.
نعم، إذا كانت في المسألة قيود غير اختياريّة فلابدّ من فرض وجودها فيمقام الأمر، فلا محالة ترجع إلى القضيّة الشرطيّة، مثل قولنا: إذا بلغتم يجبعليكم إقامة الصلاة، وإذا تحقّق غروب الشمس يجب عليكم صلاة العشاءين.
ويمكن أن يقال: إنّ كلام المحقّق النائيني قدسسره يتمّ بناءً على ذلك، فإنّ قصدالقربة أيضاً تكون من الاُمور الغير الاختياريّة؛ إذ الأمر فعل المولى، فما نبحثفيه يرجع إلى القضيّة الشرطيّة.
وفيه: أوّلاً: أنّ قصد الأمر ليس من الاُمور الغير الاختياريّة؛ إذ مرّ منّمفصّلاً أنّا نحتاج إلى قصد الأمر في مقام الامتثال، لا في مقام جعل الحكم، كمأنّ القدرة المعتبرة في التكليف معتبرة في مقام الامتثال، فإن تحقّق من ناحيةالأمر فلا بأس به، وإن كان كذلك فقصد الأمر صار أمراً اختياريّاً، فإنّه مقدورلنا بعد الأمر، بخلاف زوال الشمس فإنّه ليس بمقدور لنا بوجه.
وثانياً: أنّ على فرض تسليم كون قصد الأمر من الاُمور الغير الاختياريّةـ مثل زوال الشمس ـ ولكن قصد الأمر ليس من قبيل زوال الشمس، فإنّ
(صفحه 539)
معنى قضيّة «إذا زالت الشمس تجب صلاتا الظهر والعصر» أنّ للزوال دخلاً فيترتّب الجزاء ـ أي الوجوب ـ فإذا لم يكن الزوال فلم يكن الوجوب، وهذالمعنى لا يجري في قصد الأمر؛ إذ لا دخل لقصد الأمر في تحقّق وجوب الصلاة،ولا يعقل قولنا: إذا قصدت الأمر يجب عليك الصلاة.
وأمّا قوله قدسسره : إنّ القيود التي تؤخذ في القضايا بصورة الشرط فلا محالةتكون في مقام جعل الحكم مفروض الوجود إن كان مراده الوجود الذهني،أي إن كان للوجود الذهني للقيود دخل في تحقّق الوجوب، فلا فرق في ذلكبين المقدور وغير المقدور فإنّ تصور غير المقدور ـ بل المحال أيضاً ـ مقدورٌ،وإن كان مراده من مفروض الوجود الوجود الخارجي فلا فرق بين الطهارةوقصد الأمر فإنّ كليهما مقدور لنا، إلاّ أنّ الطهارة مقدورة مع قطع النظر عنالأمر، بخلاف قصد الأمر كما مرّ تفصيله، فجميع أدلّة القول بالاستحالة الذاتيّةليست في محلّه.
ويستفاد من أدلّة بعض العلماء القول بالاستحالة الغيريّة، كما تستفاد هذهمن كلام صاحب الكفاية قدسسره (1).
وتوضيح كلامه: أنّه يدّعي في صدر كلامه الاستحالة الذاتيّة، فإنّه يقول«الاستحالة أخذ مالا يكاد يتأتّى إلاّ من قبل الأمر بشيء في متعلّق ذاكالأمر»، وهذا ظاهر في مسألة الدور، وتقدّم الشيء على نفسه التي تساوقالاستحالة الذاتيّة.
ولكنّه في مقام الاستدلال قال: «فما لم تكن نفس الصلاة متعلّقة للأمرلايكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها» يعني: لو اُخذ قصد الأمر في المتعلّق
- (1) كفاية الاُصول 1: 112.
(صفحه540)
فلا يكون المكلّف قادراً على الامتثال.
وهذا ظاهر في الاستحالة الغيريّة؛ إذ من المعلوم أنّ التكليف بغير المقدورـ مثل تحقّق المعلول بدون العلّة ـ مستحيل بالغير.
ثمّ قال في مقام إثبات هذه الدعوى ودليل عدم قدرة المكلّف على الامتثال،وتوهّم إمكان تعلّق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر، وإمكان الإتيان بها بهذالداعي؛ ضرورة إمكان تصوّر الآمر لها مقيّدة والتمكّن من إتيانها كذلك بعدتعلّق الأمر بها، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً في صحّة الأمر إنّما هو فيحال الامتثال لا حال الأمر واضح الفساد؛ ضرورة أنّه وإن كان تصوّرهكذلك بمكان من الإمكان إلاّ أنّه لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها؛ لعدمالأمر بها ـ أي الأمر بالصلاة مجرّدة ـ فإنّ الأمر حسب الفرض تعلّق بها مقيّدةبداعي الأمر، ولا يكاد يدعو الأمر إلاّ إلى ما تعلّق به لا إلى غيره.
إن قلت: نعم، ولكنّ نفس الصلاة أيضاً صارت مأموراً بها بالأمر بهمقيّدة.
قلت: كلاّ؛ لأنّ الذات المقيّدة لا تكون مأموراً بها، فإنّ الجزء التحليليالعقلي لا يتّصف بالوجوب أصلاً، فإنّها ليست إلاّ وجوداً واحداً وواجببالوجوب النفسي، كما ربّما يأتي في باب المقدّمة، أي الصلاة جزء تحليلي،وتقيّد بقصد الأمر جزء تحليلي آخر، وهذا الشيء الواحد تعلّق به الأمر.
إن قلت: نعم، لكنّه إذا اُخذ قصد الامتثال شرطاً، وأمّا إذا اُخذ شطراً فلمحالة نفس الفعل الذي تعلّق الوجوب به مع هذا القصد يكون متعلّقللوجوب؛ إذ المركّب ليس إلاّ نفس الأجزاء بالأسر، ويكون تعلّقه بكلّ جزءبعين تعلّقه بالكلّ، ويصحّ أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب؛ ضرورة صحّة