(صفحه544)
ملكة الخوف من عقاب المولى أو ملكة الشوق إلى ثوابه ورضوانه، ومنهم منوجد في قلبه ملكة الشكر وصار بحسب ذاته عبداً شكوراً، وباعتبار هذهالملكات يصدر عنه إطاعة أوامر المولى، ومنهم من رسخ في قلبه عظمة المولىوجلاله وكبريائه فصار مقهوراً في جنب عظمته، وباعتبار هذه الملكة صارمطيعاً لأوامره.
وأعلى مرتبة العبادة ما نقل عن أمير المؤمنين عليهالسلام في دعائه وهو قوله عليهالسلام :«ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك، بل وجدتك أهلاً للعبادةفعبدتك»(1)، فكان خوفاً من النار وطعماً في الجنّة وشكراً للمنعم ووجدانالمعبود أهلاً للعبادة من الدواعي إلى المتعلّق، كما أنّ كلام أمير المؤمنين عليهالسلام صريح بأنّ المحرّك والداعي عبارة عن وجدانه عليهالسلام إياه أهلاً للعبادة.
وأمّا الأمر فليس من شأنه إلاّ تعيين موضوع الطاعة، فيصير بمنزلةالصغرى لتلك الكبريات، فما اشتهر من أنّ الأمر يكون داعياً إلى متعلّقه ليسبتامّ.
المقدّمة الثالثة: حول قوله: «الأمر لايكاد يكون داعياً إلى غير متعلّقه»،ومعناه على مبنى صاحب الكفاية قدسسره أنّ ما كان خارجاً عن دائرة المتعلّق فهوخارج عن تحت داعويّة الأمر، وعلى هذا فالشرائط بما أنّها خارجة عن دائرةالمتعلّق لايكاد يكون الأمر داعياً إليها، وهكذا في نفس الأجزاء فإنّها تغايرالمتعلّق ـ أي المركّب من جميع الأجزاء ـ بتغاير اعتباري، وإن اتّحدا خارجاً،فإنّ المتعلّق عبارة عن نفس الماهيّة، فإن تغاير معها شيء بتغاير اعتباري فهوخارج عن الماهيّة، فالأجزاء أيضاً لا تكون متعلّقاً للأمر، ولذا قال بعض
- (1) البحار 41: 14، الحديث 4.
(صفحه 545)
بتبعّض الأمر حسب تعدّد الأجزاء فراراً عن الإشكال، وقال بعض آخر بأنّالأجزاء محكومة بالوجوب الغيري بعنوان المقدّمة.
وأمّا إن كان الداعي بالمعنى الذي ذكرناه فلا إشكال في تعلّق الأمربالأجزاء والشرائط، فإنّ المحرّك والداعي الإلهي إذا وجد في النفس كما يدعوإلى المتعلّق يدعو إلى جميع ما يتوقّف عليه المتعلّق أيضاً، بلا فرق بين كونالداعي خوفاً من العقاب أو طعماً في الجنّة أو وجدان اللّه تعالى أهلاً للعبادة؛ إذالمكلّف يرى أنّ خوفاً من العقاب كما يدعو إلى أصل الصلاة كذلك يدعو إلىكلّ ماله دخل في تحقّقها، وكما أنّ ترك أصل الصلاة موجب لترتّب العقابكذلك ترك تحصيل الطهارة موجب لترتّب العقاب، وأنّ شكر المنعم والعبادة ليتحقّق بدون الشرائط وجميع الأجزاء، وهكذا.
إذا عرفت هذه المقدّمات فنقول: ما هو الحقّ في الإجابة عمّا ذهب إليهصاحب الكفاية قدسسره ؟ ومحصّل كلامه: أنّ قصد الأمر إن اُخذ في المتعلّق بعنوانالشرطيّة لا يكون المكلّف قادراً على إتيان المأمور به بداعي الأمر المتعلّق به،فإنّ المأمور به بدون قيد الداعي لا يكون متعلّقاً للأمر، وإن اُخذ بعنوانالجزئيّة فمعناه أنّ الأمر كما يكون داعياً إلى أصل المأمور به كذلك يكون داعيإلى أجزائه، ومن الأجزاء نفس داعي الأمر، ويلزم من ذلك أن يكون داعيالأمر محرِّكاً ومحرّكاً إليه. وكلا الفرضين مستحيل؛ إذ لو كان الأمر داعياً لينفكّ عن الامتثال الخارجي، فإنّ الداعي بمنزلة العلّة، والعلّة لاتنفكّ عنالمعلول.
والجواب عن فرضه الأوّل: أنّه سلّمنا أنّ قصد القربة إن كان بالمعنى الذيذكرته فليس المكلّف قادراً على الامتثال، وأمّا إن كان قصد القربة والداعويّة
(صفحه546)
بالمعنى الذي ذكرناه فلا إشكال في البين بوجه، ولا مانع من قول الشارع بأنّالصلاة تجب عليكم، أو أقيموا الصلاة بشرط أن يكون الإتيان بها بإحدىالدواعي الإلهيّة المذكورة، والمكلّف أيضاً قادر في مقام الامتثال على إتيانهكذلك.
وأمّا الجواب عن فرضه الثاني فإنّ الأمر متعلّق بجزئين أحدهما: عبارة عنالصلاة، والآخر: عبارة عن إحدى الدواعي الإلهيّة المذكورة، وإن كان كذلكفكيف يلزم أن يكون الداعي داعياً إلى نفسه بعد أن لا يكون الأمر داعيأصلاً؟! فلا استحالة في كلا الفرضين.
وأمّا قوله بأنّ القصد يكون بمعنى الإرادة وهي ليست من الاُمورالاختياريّة، فلذا لايمكن أخذ قصد الامتثال في المتعلّق، فجوابه: أنّه لا شكّ فيأنّ الإرادة ـ كما مرّ وسيأتي أيضاً في المباحث الآتية ـ أنّها تكون من الاُمورالاختياريّة، وأنّ نفس الإنسان بواسطة عناية الرحمن كانت مظهرة لخلاّقيّة اللّهتعالى بالنسبة إلى الإرادة، وإن شككنا في اختياريّة الإرادة فلابدّ من التشكيكفي الأفعال أيضاً.
وأجاب المحقّقُ الحائري قدسسره (1) صاحبَ الكفاية بجوابين، ومحصّل جوابهالأوّل أنّه ذكر في الابتداء بعنوان المقدّمة: أنّ متعلّق الحكم سواء كان حكمتكليفيّاً أو وضعيّاً على قسمين: أحدهما: ما ليس للقصد دخل في تحقّقه أصلاً،بل لو صدر عن الغافل لصدق عليه عنوانه، مثل عنوان الإتلاف في قاعدة«من أتلف مال الغير فهو له ضامن».
وثانيهما: ما يكون قوامه في الخارج بالقصد كالتعظيم والإهانة وأمثالهما.
- (1) درر الفوائد 1: 95 ـ 97.
(صفحه 547)
ثمّ قال: إذا تمهّد هذا فنقول: لا إشكال في أنّ ذوات الأفعال والأقوالالصلاتيّة ـ مثلاً ـ من دون إضافة قصد إليها ليست محبوبة ولا مجزية قطعاً،فإنّها كانت من قبيل القسم الثاني، فحقيقة العبادة عبارة عن التعظيموالخضوع والخشوع للّه تعالى، إلاّ أنّ الإنسان قد يدرك عباديّة بعض الأعمالـ كالسجود للّه تعالى ـ فإنّها عند العرف والعقلاء أعلى درجة التعظيموالخضوع والخشوع للّه سبحانه. ولا يدرك عباديّة البعض الآخر؛ لقصورإدراكه كالصوم، بناء على كونه عبارة عن التروك والإمساك، وكالهيئة المركّبةمن الأفعال والأقوال باسم الصلاة، ويكون إدراكه والتفاته في هذه الموادموقوفاً على إعلام الشارع، فلابدّ من إعلامه أوّلاً بما يتحقّق به تعظيمه ثمّيأمره به، وحينئذٍ لا مانع من قوله تعالى: أيّها الناس يجب عليكم إقامةالصلاة المقرونة بقصد عنوانها الذي هو عنوان التعظيم والخضوع والخشوع؛ إذمن الممكن كون صدور الصلاة المقرونة بقصد العنوان من العبد كان محبوبللمولى ومحقّقاً للعباديّة، سواء اُخذ قصد العنوان في المتعلّق بعنوان الشرطيّةأو الشطريّة، وليس هذا المعنى ممّا يتوقّف تحقّقه على قصد الأمر حتّى يلزممحذور الدور.
واستشكل عليه المرحوم البروجردي قدسسره (1) بأنّ هذا ينافي لما اعتبره الفقهاءفي مسألة النيّة في كتاب الصلاة من أنّ المعتبر في النيّة أمران: أحدهما: قصدعنوان الصلاة، وثانيهما: قصد القربة، فملاك العباديّة قصد القربة لا قصدالعنوان.
ولكنّه قابل للجواب وهو مبتنٍ على مقدّمة استفدناها منه قدسسره وكتبناها في
- (1) نهاية التقرير 1: 301 ـ 302.
(صفحه548)
كتاب نهاية التقرير على ما ببالي، وهي: أنّ قصد القربة مع كونه ملاكاً لعباديّةالعبادات لم يذكر اعتباره في الآية والرواية، إنّما ذكر في الروايات ما هو مضادّلقصد القربة، وحكم ببطلان ما اقترن مع أحد الأضداد كالرياء ـ مثلاً ـ كما قالاللّه تعالى في الحديث القدسي: «أنا خيرُ شريكٍ، من أشرك معي غيري في عملٍلم أقبله إلاّ ما كان لي خالصاً»(1).
وإذا كان الأمر كذلك فنقول: إنّه لا شكّ في عدم تفاوت الصلاة المقرونةبالرياء مع الصلاة المقرونة بقصد القربة من حيث صورة العمل، والفرق بينهمفي الأمر القلبي الذي عبّرنا عنه بالداعي.
وبالنتيجة إن كان إتيان الصلاة بقصد عنوان العباديّة فلا محالة تقع بقصدالقربة، وإن كان فاقداً لقصد العنوان فلا محالة تقع رياء، فيكون بين قصد القربةوقصد العنوان ملازمة من حيث الوجود، وإن كان الظاهر من اعتبار الأمرينفي كلام الفقهاء عدم الملازمة، ولكن نحن نرى تحقّق الملازمة بينهما خارجبالوجدان.
ولكن نشكل على كلام المحقّق الحائري قدسسره من جهة اُخرى، وهي: أنّ هذليس جواباً عمّا ذهب إليه المحقّق الخراساني قدسسره ، فإنّه بعد القول بالاستحالةبالغير يبتنى كلامه على أمرين: أحدهما: أنّ قوام العباديّة وامتياز الواجبالتعبّدي عن التوصّلي بسبب قصد القربة، كما قال به المشهور. وثانيهما: أنيكون قصد القربة بمعنى قصد الأمر وداعويّة الأمر.
وصرّح في ذيل كلامه بأنّه إن كان قصد القربة بمعنى إتيان العمل بداعيالمحبوبيّة أو بداعي كونه ذا مصلحة أو بداعي كونه حسناً فلا مانع من كونه
- (1) الكافي 2: 295، الحديث 9.