(صفحه 547)
ثمّ قال: إذا تمهّد هذا فنقول: لا إشكال في أنّ ذوات الأفعال والأقوالالصلاتيّة ـ مثلاً ـ من دون إضافة قصد إليها ليست محبوبة ولا مجزية قطعاً،فإنّها كانت من قبيل القسم الثاني، فحقيقة العبادة عبارة عن التعظيموالخضوع والخشوع للّه تعالى، إلاّ أنّ الإنسان قد يدرك عباديّة بعض الأعمالـ كالسجود للّه تعالى ـ فإنّها عند العرف والعقلاء أعلى درجة التعظيموالخضوع والخشوع للّه سبحانه. ولا يدرك عباديّة البعض الآخر؛ لقصورإدراكه كالصوم، بناء على كونه عبارة عن التروك والإمساك، وكالهيئة المركّبةمن الأفعال والأقوال باسم الصلاة، ويكون إدراكه والتفاته في هذه الموادموقوفاً على إعلام الشارع، فلابدّ من إعلامه أوّلاً بما يتحقّق به تعظيمه ثمّيأمره به، وحينئذٍ لا مانع من قوله تعالى: أيّها الناس يجب عليكم إقامةالصلاة المقرونة بقصد عنوانها الذي هو عنوان التعظيم والخضوع والخشوع؛ إذمن الممكن كون صدور الصلاة المقرونة بقصد العنوان من العبد كان محبوبللمولى ومحقّقاً للعباديّة، سواء اُخذ قصد العنوان في المتعلّق بعنوان الشرطيّةأو الشطريّة، وليس هذا المعنى ممّا يتوقّف تحقّقه على قصد الأمر حتّى يلزممحذور الدور.
واستشكل عليه المرحوم البروجردي قدسسره (1) بأنّ هذا ينافي لما اعتبره الفقهاءفي مسألة النيّة في كتاب الصلاة من أنّ المعتبر في النيّة أمران: أحدهما: قصدعنوان الصلاة، وثانيهما: قصد القربة، فملاك العباديّة قصد القربة لا قصدالعنوان.
ولكنّه قابل للجواب وهو مبتنٍ على مقدّمة استفدناها منه قدسسره وكتبناها في
- (1) نهاية التقرير 1: 301 ـ 302.
(صفحه548)
كتاب نهاية التقرير على ما ببالي، وهي: أنّ قصد القربة مع كونه ملاكاً لعباديّةالعبادات لم يذكر اعتباره في الآية والرواية، إنّما ذكر في الروايات ما هو مضادّلقصد القربة، وحكم ببطلان ما اقترن مع أحد الأضداد كالرياء ـ مثلاً ـ كما قالاللّه تعالى في الحديث القدسي: «أنا خيرُ شريكٍ، من أشرك معي غيري في عملٍلم أقبله إلاّ ما كان لي خالصاً»(1).
وإذا كان الأمر كذلك فنقول: إنّه لا شكّ في عدم تفاوت الصلاة المقرونةبالرياء مع الصلاة المقرونة بقصد القربة من حيث صورة العمل، والفرق بينهمفي الأمر القلبي الذي عبّرنا عنه بالداعي.
وبالنتيجة إن كان إتيان الصلاة بقصد عنوان العباديّة فلا محالة تقع بقصدالقربة، وإن كان فاقداً لقصد العنوان فلا محالة تقع رياء، فيكون بين قصد القربةوقصد العنوان ملازمة من حيث الوجود، وإن كان الظاهر من اعتبار الأمرينفي كلام الفقهاء عدم الملازمة، ولكن نحن نرى تحقّق الملازمة بينهما خارجبالوجدان.
ولكن نشكل على كلام المحقّق الحائري قدسسره من جهة اُخرى، وهي: أنّ هذليس جواباً عمّا ذهب إليه المحقّق الخراساني قدسسره ، فإنّه بعد القول بالاستحالةبالغير يبتنى كلامه على أمرين: أحدهما: أنّ قوام العباديّة وامتياز الواجبالتعبّدي عن التوصّلي بسبب قصد القربة، كما قال به المشهور. وثانيهما: أنيكون قصد القربة بمعنى قصد الأمر وداعويّة الأمر.
وصرّح في ذيل كلامه بأنّه إن كان قصد القربة بمعنى إتيان العمل بداعيالمحبوبيّة أو بداعي كونه ذا مصلحة أو بداعي كونه حسناً فلا مانع من كونه
- (1) الكافي 2: 295، الحديث 9.
(صفحه 549)
داخلاً في المتعلّق.
وأمّا المحقّق الحائري قدسسره فقد أنكر مبناه الأوّل وقال: إنّ الملاك في العباديّةعبارة عن الخصوصيّة الموجودة في نفس العمل ـ أي التعظيم والخضوعوالخشوع للّه ـ وذلك قد يستفاد من ذات العمل كالسجود، وقد يحتاج إلىهداية الشارع، ولذا إن قصد هذا العنوان تتحقّق العباديّة، ومن البديهي أنّ هذلايكون جواباً عنه بل هو تغيير للمبنى.
ويمكن أن يتوهّم أنّ هذا الإشكال بعينه يرد على ما اخترناه تبعاً للإماموالمرحوم البروجردي ، إلاّ أنّا ننكر مبناه الثاني، وقلنا: إنّ الداعي عبارةعن إحدى الاُمور الإلهيّة وأنكرنا الداعويّة للأمر، فالإشكال مشترك الورود.
وجوابه: أنّ داعويّة الأمر عندنا غير معقولة ومستحيلة، وأمّا المحقّقالحائري فقد استظهر أن يكون الملاك في العباديّة عبارة عن الخصوصيّةالمذكورة، ومعلوم أنّ الاختلاف في الصورة الثانية مبنائي بخلاف الاُولى.
وأمّا الجواب الثاني الذي ذكره المحقّق الحائري قدسسره على كلام صاحبالكفاية قدسسره في المقام فهو أيضا متوقّف على مقدّمة، وهي: أنّ الواجب علىقسمين: الأوّل: الواجب الغيري، وهو ما يتعلّق الوجوب ابتداءً بغيره ثمّيسري إليه، ولا يترتّب على تركه استحقاق العقوبة، مثل وجوب المقدّمة.
الثاني: الواجب النفسي وهو أيضا على قسمين: الواجب النفسي للنفس،وهو ما يكون الوجوب متعلّقا به لنفسه ويترتّب على تركه استحقاق العقوبة،والواجب النفسي للغير وهو ما يترتّب على تركه استحقاق العقوبة، مع أنّه لموضوعيّة له، بل إنّما يكون لمراعاة حصول الغير في زمانه، مثل وجوب التعلّمللعمل بالأحكام الشرعيّة، فإنّه واجب نفسي للغير، ومثل وجوب الغسل قبل
(صفحه550)
الفجر في شهر رمضان، فإنّ وجوبه نفسي لا مقدّمي؛ إذ الأمر به متعلّق قبلالأمر بالصوم، ومعلوم أنّه لا معنى لوجوب المقدّمة قبل وجوب ذي المقدّمة.
إذا عرفت هذا فنقول: الفعل المأمور به مركّب من ثلاثة أجزاء: الصلاةوعدم الدواعي النفسانيّة ووجود الداعي الإلهي، أو أنّ المأمور به مشروطبالشرط المركّب من جزءين ـ أعني: عدم الدواعي النفسانيّة وثبوت الداعيالإلهي ـ ومن البديهي أنّ وجود الداعي الإلهي ملازم لعدم الدواعي النفسانيّةوبالعكس، ولا يمكن عدمهما ولا اجتماعهما، فالأمر متعلّق بالجزءين أوبالمشروط والجزء الأوّل من الشرط ـ أي الصلاة وعدم الدواعي النفسانيّة وكان تعلّق الأمر بهما للغير ـ يعني لتحقّق الداعي الإلهي ـ وهو يتحقّقبالملازمة، والمفروض أنّ القدرة على التكليف تعتبر في ظرف الامتثال وإنحصلت بنفس الأمر، فالصلاة المقيّدة بعدم صدورها عن الدواعي النفسانيّةمتعلّقة للأمر من دون ضمّ قيد داعي الأمر، والداعي الإلهي إليها، فلا مانع منهولا يلزم الدور. هذا محصّل كلام المحقّق الحائري قدسسره (1).
ويرد عليه: أوّلاً: بأنّ هذا بعيد عن الواقعيّة، فإنّ ازدياد جزء في المأمور بهأو نقصه عنه ليس في اختيارنا حتّى يستفاد من هذا الطريق لحلّ العقدة ههنا،مع أنّا لا نرى في كلمات فقيه من الفقهاء احتمال كون وجوب الصلاة للغير،فضلاً عن القائل به، فهذا الكلام أشبه بالتخيّل ولا يناسب الفقه.
وثانيا: ذكرنا فيما تقدّم أنّ كون قصد القربة بمعنى داعي الأمر من أساسه أمرغير معقول، وأنّ الداعي أمر من الاُمور النفسانيّة المذكورة التي تتفاوتبحسب درجات العبوديّة.
- (1) درر الفوائد 1: 95 ـ 97.
(صفحه 551)
وثالثا: على فرض تسليم إتيان الصلاة بداعي الأمر المتعلّق بها لا ضرورةلإتيان الدواعي غير الإلهيّة بداعي الأمر، فإن لم يمكن إتيان داعي الأمربداعويّة نفسه ففي ناحية عدم الدواعي النفسانيّة على فرض الإمكان لضرورة تقتضي إتيانه بداعي الأمر، فهذا الجواب أيضا ليس بتامّ.
وآخر ما تعرّضنا له من الأجوبة على كلام صاحب الكفاية قدسسره ما قال بهصاحب المحاضرات(1) وهو مبتنٍ على مقدّمتين:
الاُولى: أنّ تصوير الواجب التعبّدي على أنحاء: الأوّل: أن يكون تعبّديّبكافّة أجزائه وشرائطه. الثاني: أن يكون تعبّديّا بأجزائه مع بعض شرائطه.الثالث: أن يكون تعبّديّا ببعض أجزائه دون بعضها الآخر.
أمّا النحو الأوّل فالظاهر أنّه لا مصداق له خارجاً، ولا يتعدّى عن مرحلةالتصوّر إلى الواقع الموضوعي.
وأمّا النحو الثاني فهو واقع كثيرا في الخارج، حيث إنّ أغلب العباداتالواقعة في الشريعة المقدّسة الإسلاميّة من هذا النحو، منها الصلاة ـ مثلاً ـ فإنّأجزاءها بأجمعها أجزاء عباديّة، وأمّا شرائطها فجملة كثيرة منها غير عباديّة،وذلك كطهارة البدن والثياب واستقبال القبلة وما شاكل ذلك فإنّها رغم كونهشرائط للصلاة تكون توصّليّة وتسقط عن المكلّف بدون قصد التقرّب.
نعم، الطهارات الثلاث خاصّة تعبّديّة، فلا تصحّ بدونه، وأضف إلى ذلك أنّتقييد الصلاة بتلك القيود أيضا لا يكون عباديّا، فلو صلّى المكلّف غافلاً عنطهارة ثوبه أو بدنه ثمّ انكشف كونه طاهرا صحّت صلاته، مع أنّ المكلّف غيرقاصد للتقييد، فضلاً عن قصد التقرّب به، فلو كان أمراً عباديّا لوقع فاسدا؛
- (1) محاضرات في الفقه 2: 162 ـ 168.