(صفحه 559)
فنقول: إنّه لو كانت الصلاة المركّبة من داعي الحسن مأمورا بها يلزم أنيكون الحسن داعيا إلى داعويّة نفسه، وهذا أيضا غير معقول، وهكذا فيصورة كون الصلاة المركّبة من داعي المصلحة أو كونها للّه تعالى مأمورا بها.
والحاصل ممّا ذكرنا: أنّ أخذ قصد القربة في المتعلّق ـ سواء كان بمعنى داعيالأمر أو إحدى المعاني الاُخر ـ لا مانع منه.
البحث الثالث: في أنّه هل يمكن التمسّك بإطلاق الصيغة عند الشكّ فيالعباديّة والتوصّليّة لاستكشاف أحد الأمرين أم لا؟ والكلام ههنا يقع فيمقامين: المقام الأوّل في الأدلّة اللفظيّة، والثاني في الاُصول العمليّة.
وكان لصاحب الكفاية قدسسره (1) في المقام الأوّل كلام يحتاج إلى توضيح، وهوأنّه بعد القول بأنّ قصد القربة يكون بمعنى قصد الأمر وهو لا يكون قابلللأخذ في المتعلّق، لا بنحو الجزئيّة ولا بنحو الشرطيّة، لا بأمر واحد ولبأمرين. قال: «لا مجال للتمسّك بالإطلاق لإثبات التوصّليّة، بمعنى أنّه لوشككنا في جزئيّة شيء أو شرطيّته ـ كالسورة أو الطهارة مثلاً ـ يمكننا التمسّكبإطلاق «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» بعد تماميّة مقدّمات الحكمة، أي كون المولى في مقامالبيان، وعدم نصبه القرينة على التقييد، وعدم كون القدر المتيقّن في مقامالتخاطب، فيستفاد منها عدم الجزئيّة أو الشرطيّة.
وأمّا في مورد الشكّ في دخالة قصد القربة ـ بمعنى قصد الأمر الذي لا يمكنأخذه في المتعلّق ـ فلا يجوز التمسّك بأصالة الإطلاق؛ لأنّ الإطلاق والتقييد منباب العدم والملكة، وهما يحتاجان إلى الموضوع القابل، أي الإطلاق عبارةعن عدم التقييد في المورد الذي يمكن التقييد فيه، وإذا ثبت عدم إمكان تقييد
- (1) كفاية الاُصول 1: 112.
(صفحه560)
المتعلّق بقصد القربة فلا إطلاق في البين حتّى نتمسّك به لنفي العباديّة، فانقدحبذلك أنّه لا وجه لاستظهار التوصّليّة من إطلاق الصيغة بمادّتها، وللاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه ممّا هو ناشٍ من قبل الأمر من إطلاق المادّةفي العبادة لو شكّ في اعتباره فيها.
نكتة: أنّه مرّ في باب الصحيح والأعمّ أنّ الأعمّي يمكن له التمسّك بإطلاق«أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» لنفي جزئيّة السورة المشكوكة ـ مثلاً ـ بعد تماميّة مقدّماتالحكمة؛ إذ على فرض جزئيّتها لا تكون الصلوات الفاقدة للسورة خارجةعن عنوان الصلاة، بخلاف الصحيحي فإنّ فاقدة السورة عنده ليست بصلاةأصلاً على فرض جزئيّتها.
نعم، إذا كان الآمر في مقام بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضهوإن لم يكن له دخل في متعلّق أمره لامتناع دخله فيه ـ كقصد القربة ونحوه ومعه سكت في المقام ولم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصولهكان هذا قرينة على عدم دخله في غرضه، وإلاّ لكان سكوته نقضا له وخلافالحكمة. فهذا الإطلاق المقامي الذي قد يعبّر عنه بالإطلاق الحالي في مقابلالإطلاق اللفظي المعبّر عنه بالإطلاق المقالي أيضا. هذا تمام كلامه بتوضيحمنّا.
واعلم أنّ الفرق بينهما اُمور:
الأوّل: أنّ الإطلاق المقامي لا يرتبط باللفظ وليس من الاُصول اللفظيّة،بل يرتبط بمقام المولى وحاله، بخلاف الإطلاق اللفظي.
الثاني: أنّ المولى في الإطلاق المقامي لا يتكلّم بعنوان المنشئ والآمروالحاكم، بل يتكلّم بعنوان المخبر والمطّلع على الواقعيّات بجميع ما له دخل في
(صفحه 561)
حصول الغرض المترتّب على الصلاة ـ مثلاً ـ بخلاف الإطلاق اللفظي، فإنّالمولى فيه يتكلّم بعنوان الآمر والمنشئ بتمام ما له دخل ـ شطرا أو شرطا ـ فيالمتعلّق وإن كان ظاهر كلامه بصورة الجملة الخبريّة، مثل قوله عليهالسلام : «لا صلاةإلاّ بطهور» إذ كان مفاده أنّه يعتبر في الصلاة الطهارة.
الثالث: أنّهم بعد أن يذكروا شرائط الإطلاق اللفظي في باب المطلقوالمقيّد؛ وأنّها عبارة عن مقدّمات الحكمة، وأوّلها أن يكون المولى في مقامالبيان لا الإهمال والإجمال، ثمّ يقولون: إنّ المولى إذا قال: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»فيتصوّر فيه ثلاث حالات: فقد نحرز من الخارج كونه في مقام بيانخصوصيّات معتبرة في الصلاة، وقد نحرز عدم كونه كذلك، وقد نشكّ في كونهكذلك، ولا بحث في الصورة الاُولى والثانية، وأمّا في الصورة الثالثة فيقولون:إنّ بناء العقلاء في هذا المورد على تحقّق المقدّمة الاُولى من مقدّمات الحكمة،وأنّ المولى في مقام البيان، فنتمسّك بالإطلاق في الصورة الاُولى والثالثة،بخلاف الإطلاق المقامي؛ إذ يمكن لنا التمسّك به في صورة واحدة، أي صورةإحراز كون المولى في مقام البيان بسبب تصريحه أو بطرق اُخرى، وأمّا فيصورة الشكّ فليس للعقلاء بناء على كونه في مقام البيان، فلا يمكننا التمسّكبالإطلاق المقامي.
وحاصل كلام صاحب الكفاية قدسسره أنّه لا يجوز التمسّك بالإطلاق اللفظي فيمورد الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة، وأمّا التمسّك بالإطلاق المقاميفلا بأس به.
ونرجع إلى البحث فنقول: هل أنّ هذا البيان تام أم لا؟ وههنا مطالب منأعاظم تلامذته، ولابدّ لنا من ملاحظة بعض منها لتنقيح البحث.
(صفحه562)
منها: ما قال به المحقّق الحائري على ما نقله عنه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1)،ومحصّل ما أفاده مبنيّ على مقدّمات:
الاُولى: أنّ الأوامر إنّما تتعلّق بنفس الطبائع، أي المفاهيم الكلّيّةاللاّبشرطيّة العارية عن كلّ قيد، لا بصرف الوجود ولا بالوجود السعيوالساري في جميع الأفراد والمصاديق.
الثانية: أنّ العلل التشريعيّة كالعلل التكوينيّة طابق النعل بالنعل، فكلّ مهو من مقتضيات الثانية يكون من مقتضيات الاُولى أيضا كتكثّر المعلوللتكثّر علّته، وكعدم انفكاك المعلول عنها وغير ذلك، فكما أنّ النار سببللحرارة كذلك إتلاف مال الغير سبب للضمان، وكلّ جنابة سبب مستقلّلوجوب الغسل، ولا يمكن الانفكاك بين السبب والمسبّب في التكوينيّاتوالتشريعيّات إلاّ بالإعجاز في الاُولى ـ مثل قضيّة إبراهيم عليهالسلام ـ وحكم خلافالقاعدة في الثانية، فلابدّ لنا من المشي على القاعدة في موارد لم يكن الدليلعلى عدم الانفكاك، وعلى ذلك بنى قدسسره القول بعدم التداخل في الأسباب والقولبظهور الأمر في الفور ودلالته على المرّة، فالأمر علّة شرعيّة لتحقّق المأمور بهوتكون المرّة، وكذا الفوريّة داخلة في مفاد الأمر، كما أنّ الفوريّة والمرّة تكونمن آثار العلّة التكوينيّة.
الثالثة: أنّ القيود اللبّية على قسمين: قسم منها ما يمكن أخذها في المتعلّقعلى نحو القيديّة اللحاظيّة كالطهارة، وقسم منها ما لا يمكن أخذها في المتعلّقوتقييده بها، إلاّ أنّه لا ينطبق إلاّ على المقيّد بمعنى أنّه له ضيقا ذاتيّا لا يتّسعغيره بدون دليل يوجب التوسعة كمقدّمة الواجب ـ بناءً على وجوبها ـ فإنّ
- (1) مناهج الوصول إلى علم الاُصول 1: 275.
(صفحه 563)
الإرادة المستتبعة للبعث من الأمر لا تترشّح إلى المقدّمة مطلقا، موصلة كانتأم لا؛ لعدم الملاك فيها، ولا على المقيّدة بالإيصال؛ لاستلزامه الدور المقرّر فيمحلّه، ولكنّها لا تنطبق إلاّ على المقدّمة الموصلة وكالعلل التكوينيّة، فإنّتأثيرها ليس في الماهيّة المطلقة ولا المقيّدة بقيد المتأثّر من قبلها فإنّها ممتنعة،بل في الماهيّة التي لا تنطبق إلاّ على المقيّد بهذا القيد، كالنار فإنّ معلولها ليستالحرارة المطلقة، سواء كانت مولّدة عنها أم لا، ولا المقيّدة بكونها من علّته التيهي النار، ولكنّها لا تؤثّر إلاّ في المعلول المنطبق المخصوص.
إذا تمهّدت هذه المقدّمات فنقول: إنّ المأمور به ليس إلاّ نفس الطبيعة القابلةللتكثّر بحكم المقدّمة الاُولى، كما أنّ المبعوث إليه ليست الصلاة المطلقة، سواءكانت مبعوثا إليها بهذا الأمر أم بغيره، ولا المقيّد بكونها مأمورا بأمرهالمتعلّق بها، بل ما لا ينطبق إلاّ على الأخير لا بنحو الاشتراط، بل له ضيقذاتي لا يبعث إلاّ نحو المأمور بها، كما في العلل التكوينيّة.
وبعبارة أوضح: أنّ الأوامر تحرّك المكلّف نحو الطبيعة التي لا تنطبق لبّا إلعلى المقيّدة بتحريكها، فإذا أتى المكلّف بها من غير دعوة الآمر لا يكون آتيبالمأمور به؛ لأنّه لا ينطبق إلاّ على المقيّد بدعوة الأمر، فمقتضى الأصل اللفظيهو كون الأوامر تعبّدية قربيّة. هذا تمام ما ذكره المحقّق الحائري قدسسره في أواخرعمره الشريف على ما نقله الإمام قدسسره وبه عدل عن كثير من مبانيه السابقة،ورجع إلى الأصالة التعبّديّة بعد ما كان بانيا على جواز الأخذ في المتعلّق، وأنّالأصل في الأوامر كونها توصّليّة.
ولكن هذا الكلام مخدوش من جهات:
الاُولى: أنّ ترتّب النتيجة المذكورة على المقدّمات المذكورة ليست صحيحة