(صفحه564)
ولو فرضنا صحّة المقدّمات؛ إذ التضيّق المذكور هل تحقّق في جميع الموارد وإنكان الواجب توصّليّاً أو في خصوص الواجبات التعبّديّة؟ فإن كان مرادهالأوّل فهو مخالف لما هو من ضروريّات الفقه؛ من أنّه لا حاجة في الواجباتالتوصّليّة إلى التضيّق والتقيّد بقصد القربة بوجه، وإن كان مراده الثاني وسلّمنأنّ مقتضى الأصل اللفظي عبارة عن التعبّديّة في موارد الشكّ، ولكن نسأل أنّأي أصل هو وما هو اسمه؟
فإن قيل: أنّ مرجع الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة إلى الشكّ في تضيّق المأموربه وعدمه، وإتيانه بدون قصد القربة يوجب الشكّ في براءة الذمّة، فلابدّ منرعاية قصد القربة لتحصيل البراءة اليقينيّة.
قلنا: إنّ هذا أصل عملي لا لفظي.
الثانية: أنّ قياس العلل التشريعيّة بالتكوينيّة قياس مع الفارق ـ كما قالالإمام قدسسره (1) بهذا الجواب ـ فإنّ هذا ادّعاء بلا دليل، بل لنا دليل على خلافه،وهو أنّ المعلول في العلّة التكوينيّة الحقيقيّة ـ أي الفاعل الإلهي لا المادّي الذيهو في سلك المعدّات ـ إنّما هو ربط محض بعلّته لا شيئيّة له قبل تأثير علّته،ففعليّته ظلّ فعليّة علّته، كما قال المرحوم صدر المتألّهين(2) في مسألة ارتباطالواجب والممكنات: إنّ الممكن عين الربط لا شيء له الربط، بخلافه في العللالتشريعيّة فإنّ الأمر إمّا يكون بمعنى الإرادة القائمة بنفس المولى، وإمّا بمعنىالبعث والتحريك الاعتباري، فكلاهما بعيدان عن العلّيّة بمراتب؛ إذ أقلّ ميتحقّق في العلّيّة تقدّم العلّة على المعلول، وهذا المعنى لا يجري فيهما؛ لأنّ
- (1) مناهج الوصول إلى علم الاُصول 1: 276.
- (2) الحكمة المتعالية 2: 299.
(صفحه 565)
تشخّص الإرادة التي تعدّ علّة تشريعيّة بتشخّص المراد؛ إذ هي أمر ذاتإضافة لا يعقل تعلّقها بشيء مجهول، فالمراد وكذا المريد مقدّم على الإرادة،وهكذا البعث الاعتباري، فإنّ المبعوث إليه تكون رتبته متقدّمة على البعث،بل هو متقوّم به، فلا تكون الأوامر قابلة للمقايسة بالمعدّات التي نتصوّرهالعلل التكوينيّة فضلاً عن العلّة الحقيقيّة التكوينيّة.
ثمّ قال: وأولى بعدم التسليم ما اختاره في باب تعدّد الأسباب، فإنّ اقتضاءكلّ علّة تكوينيّة معلولاً مستقلاًّ إنّما هو لقضيّة إيجاب كلّ علّة مؤثّرة وجودآخر يكون معلولاً ووجودا ظلّيّا له؛ إذ العلّيّة والمعلوليّة تدور مدار الوجود،ولا معنى لأن تكون إحدى الماهيّات علّة لماهيّة اُخرى، وأمّا الوجوب بمعنىالإرادة فلا معنى لتعلّقه بشيء واحد زمانا ومكانا مرّتين؛ إذ لا يقع الشيءالواحد تحت دائرة الإرادة إلاّ مرّة واحدة، ولا تحت أمر تأسيسي متعدّد، فإذنتكثّر الإرادة تابع لتكثّر المراد، وأمّا المعلول التكويني فتكثّره تابع لتكثّر علّته.
وأيضا يدلّ على بطلان المقايسة عدم انفكاك المعلول عن علّته، فإنّ وجودالعلّة التامّة كافٍ في تحقّقه، فلا معنى للانفكاك، وأمّا الوجوب بمعنى الإرادةفيتعلّق بأمر استقبالي أيضا كما في الواجبات التعليقيّة، مثل الحجّ بالنسبة إلىالاستطاعة؛ إذ الوجوب يتحقّق بمجرد تحقّق الاستطاعة، ولكنّ الواجبيتحقّق في الموسم.
وبالنتيجة لا يتحقّق في مورد الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة الأصل اللفظيعلى مبنى صاحب الكفاية قدسسره بعد عدم تماميّة ما قال به المحقّق الحائري قدسسره بمذكرناه وبما لم نذكره من المناقشات اجتنابا من التطويل.
ومن هنا نرجع إلى كلام صاحب الكفاية والجواب عنه، وهو مبتنٍ على
(صفحه566)
مقدّمتين ونحن نجيب عن مقدّمته الاُولى، ونأخذ النتيجة من البحث، وعلىفرض تماميّة المقدّمة الاُولى نلاحظ أنّ مقدّمته الثانية هل تكون صحيحة أملا؟ والمقدّمتان عبارة عن استحالة أخذ قصد القربة بمعنى داعي الأمر فيالمتعلّق، وكون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، بمعنىاستحالة الإطلاق بعد استحالة التقييد، فنقول: إنّ أخذ قصد القربة في المتعلّقكسائر الأجزاء والشرائط لا مانع منه ولا إشكال فيه، فالتمسّك بإطلاق الدليللرفع الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة ونفي دخالة قصد القربة في المأمور به لإشكال فيه أيضا.
ولكن قد مرّ أنّ التمسّك بالإطلاق مبني على القول بوضع ألفاظ العباداتللأعمّ؛ إذ المأمور به على القول بالصحيح عبارة عن الصلاة الصحيحة ـ مثلاً ولا نعلم أنّ الصلاة الفاقدة لقصد القربة صحيحة أم لا، ولابدّ في مورد التمسّكبالإطلاق من إحراز تطبيق المطلق والشكّ في دخالة قيد زائد ـ مثل إحرازعنوان الرقبة ـ والشكّ في دخالة قيد الإيمان في مسألة اعتق رقبة، فالتمسّكبإطلاق الدليل على القول بإمكان أخذ قصد القربة في المتعلّق لا إشكال فيه،بخلاف القول بامتناع تقييد المأمور به بقصد القربة بمعنى داعي الأمر كما قال بهصاحب الكفاية قدسسره .
ولقائل أن يقول: إنّه لا ربط بين امتناع التقييد والتمسّك بالإطلاق، فإنّا لنتمسّك بالتقييد، بل نتمسّك بالإطلاق لنفي التقييد.
ولابدّ لنا في مقام الجواب عن هذا السؤال من ملاحظة أنّ التقابل بينالإطلاق والتقييد هل يكون تقابل العدم والملكة أو تقابل التضادّ أو تقابلالإيجاب والسلب، إن كان التقابل بينهما تقابل التضادّ فيلزم أن يكونا أمرين
(صفحه 567)
وجوديين، التقييد بمعنى أخذ القيد والإطلاق بمعنى رفض القيد، وإن كانالتقابل بينهما تقابل الإيجاب والسلب فيكون التقييد أمرا وجوديّا والإطلاقأمرا عدميّا بمعنى سلب القيد، وإن كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكةفيكون الإطلاق أمرا عدميّا ولكنّه في مورد كان قابلاً للتقييد، وإن لم يكنقابلاً للتقييد فلا معنى للإطلاق، فامتناع التمسّك بالإطلاق بسبب امتناعالتقييد يكون على مبنى كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة؛ ولذا لا يمكنالتمسّك بالإطلاق اللفظي لنفي التقييد.
وأمّا على مبنى كون التقابل بينهما تقابل التضادّ فليس هذا البيان بتام؛ إذ ليلزم من امتناع أحد المتضادّين امتناع الآخر، إنّما يمتنع اجتماع المتضادّين فقط؛ولذا لا مانع من التمسّك بالإطلاق لنفي التقييد على هذا المبنى.
ولو سلّمنا مقدّمته الاُولى ـ أي امتناع أخذ قصد القربة في المتعلّق ـ كما أنّهكذلك على مبنى كون التقابل بينهما تقابل الإيجاب والسلب؛ إذ لا يلزم منامتناع الإيجاب امتناع السلب أصلاً، بل ربما يكون بالعكس، وإذا كان الأمركذلك فلا يمكن لصاحب الكفاية الاستفادة من مقدّمته الاُولى بوحدتها لنفيالتمسّك بالإطلاق.
والمحقّق النائيني(1) أيضا قال بمثل ما حكيناه عن المحقّق الخراساني من أنّلازم كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة اعتبار كون المورد قابلاً للتقييد،فما لم يكن كذلك لم يكن قابلاً للإطلاق أيضاً.
وأجاب عنه صاحب المحاضرات(2) نقضاً وحلاًّ، وذكر للنقض عدّة موارد،
- (1) أجود التقريرات 1: 113.
- (2) محاضرات في اُصول الفقه 2: 175 ـ 179.
(صفحه568)
واكتفينا منها بموردين:
أحدهما: أنّ الإنسان جاهل بحقيقة ذات الواجب تعالى، ولا يتمكّن منالإحاطة بكنه ذاته سبحانه حتّى نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآله وذلك لاستحالة إحاطةالممكن بالواجب، فإذا كان علم الإنسان بذاته تعالى مستحيلاً لكان جهله بهضروريّا، مع أنّ التقابل بين الجهل والعلم من تقابل العدم والملكة، فلو كانتاستحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر لزم استحالة الجهل في مفروضالمقام، مع أنّه ضروري وجدانا.
وثانيهما: أنّ الإنسان يستحيل أن يكون قادرا على الطيران في السماء معأنّ عجزه عنه ضروري وليس بمستحيل، فلو كانت استحالة أحد المتقابلينبتقابل العدم والملكة تستلزم استحالة الآخر لكانت استحالة القدرة فيمفروض المثال تستلزم استحالة العجز مع أنّ الأمر ليس كذلك.
وأمّا حلاًّ فلأنّ قابليّة المحلّ المعتبرة في التقابل المذكور لا يلزم أن تكونشخصيّة في جزئيّات مواردها، بل يجوز أن تكون صنفيّة أو نوعيّة أو جنسيّةكما قال به الفلاسفة، فلا يعتبر في صدق العدم المقابل للملكة على مورد أنيكون ذلك المورد بخصوصه قابلاً للاتّصاف بالوجود ـ أي الملكة ـ بل كميكفي ذلك يكفي في صدقه عليه، أن يكون صنف هذا الفرد أو نوعه أو جنسهقابلاً للاتّصاف بالوجود وإن لم يكن شخص هذا الفرد قابلاً للاتّصاف به.
ويتّضح ذلك ببيان الأمثلة المتقدّمة، فإنّ الإنسان قابل للاتّصاف بالعلموالمعرفة، ولكن قد يستحيل اتّصافه به في خصوص لأجل خصوصيّة فيه،وذلك كالعلم بذات الواجب تعالى حيث يستحيل اتّصاف الإنسان به، مع أنّصدق العدم ـ وهو الجهل ـ عليه ضروري، ومن الطبيعي أنّ هذا ليس إلاّ