(صفحه566)
مقدّمتين ونحن نجيب عن مقدّمته الاُولى، ونأخذ النتيجة من البحث، وعلىفرض تماميّة المقدّمة الاُولى نلاحظ أنّ مقدّمته الثانية هل تكون صحيحة أملا؟ والمقدّمتان عبارة عن استحالة أخذ قصد القربة بمعنى داعي الأمر فيالمتعلّق، وكون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، بمعنىاستحالة الإطلاق بعد استحالة التقييد، فنقول: إنّ أخذ قصد القربة في المتعلّقكسائر الأجزاء والشرائط لا مانع منه ولا إشكال فيه، فالتمسّك بإطلاق الدليللرفع الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة ونفي دخالة قصد القربة في المأمور به لإشكال فيه أيضا.
ولكن قد مرّ أنّ التمسّك بالإطلاق مبني على القول بوضع ألفاظ العباداتللأعمّ؛ إذ المأمور به على القول بالصحيح عبارة عن الصلاة الصحيحة ـ مثلاً ولا نعلم أنّ الصلاة الفاقدة لقصد القربة صحيحة أم لا، ولابدّ في مورد التمسّكبالإطلاق من إحراز تطبيق المطلق والشكّ في دخالة قيد زائد ـ مثل إحرازعنوان الرقبة ـ والشكّ في دخالة قيد الإيمان في مسألة اعتق رقبة، فالتمسّكبإطلاق الدليل على القول بإمكان أخذ قصد القربة في المتعلّق لا إشكال فيه،بخلاف القول بامتناع تقييد المأمور به بقصد القربة بمعنى داعي الأمر كما قال بهصاحب الكفاية قدسسره .
ولقائل أن يقول: إنّه لا ربط بين امتناع التقييد والتمسّك بالإطلاق، فإنّا لنتمسّك بالتقييد، بل نتمسّك بالإطلاق لنفي التقييد.
ولابدّ لنا في مقام الجواب عن هذا السؤال من ملاحظة أنّ التقابل بينالإطلاق والتقييد هل يكون تقابل العدم والملكة أو تقابل التضادّ أو تقابلالإيجاب والسلب، إن كان التقابل بينهما تقابل التضادّ فيلزم أن يكونا أمرين
(صفحه 567)
وجوديين، التقييد بمعنى أخذ القيد والإطلاق بمعنى رفض القيد، وإن كانالتقابل بينهما تقابل الإيجاب والسلب فيكون التقييد أمرا وجوديّا والإطلاقأمرا عدميّا بمعنى سلب القيد، وإن كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكةفيكون الإطلاق أمرا عدميّا ولكنّه في مورد كان قابلاً للتقييد، وإن لم يكنقابلاً للتقييد فلا معنى للإطلاق، فامتناع التمسّك بالإطلاق بسبب امتناعالتقييد يكون على مبنى كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة؛ ولذا لا يمكنالتمسّك بالإطلاق اللفظي لنفي التقييد.
وأمّا على مبنى كون التقابل بينهما تقابل التضادّ فليس هذا البيان بتام؛ إذ ليلزم من امتناع أحد المتضادّين امتناع الآخر، إنّما يمتنع اجتماع المتضادّين فقط؛ولذا لا مانع من التمسّك بالإطلاق لنفي التقييد على هذا المبنى.
ولو سلّمنا مقدّمته الاُولى ـ أي امتناع أخذ قصد القربة في المتعلّق ـ كما أنّهكذلك على مبنى كون التقابل بينهما تقابل الإيجاب والسلب؛ إذ لا يلزم منامتناع الإيجاب امتناع السلب أصلاً، بل ربما يكون بالعكس، وإذا كان الأمركذلك فلا يمكن لصاحب الكفاية الاستفادة من مقدّمته الاُولى بوحدتها لنفيالتمسّك بالإطلاق.
والمحقّق النائيني(1) أيضا قال بمثل ما حكيناه عن المحقّق الخراساني من أنّلازم كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة اعتبار كون المورد قابلاً للتقييد،فما لم يكن كذلك لم يكن قابلاً للإطلاق أيضاً.
وأجاب عنه صاحب المحاضرات(2) نقضاً وحلاًّ، وذكر للنقض عدّة موارد،
- (1) أجود التقريرات 1: 113.
- (2) محاضرات في اُصول الفقه 2: 175 ـ 179.
(صفحه568)
واكتفينا منها بموردين:
أحدهما: أنّ الإنسان جاهل بحقيقة ذات الواجب تعالى، ولا يتمكّن منالإحاطة بكنه ذاته سبحانه حتّى نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآله وذلك لاستحالة إحاطةالممكن بالواجب، فإذا كان علم الإنسان بذاته تعالى مستحيلاً لكان جهله بهضروريّا، مع أنّ التقابل بين الجهل والعلم من تقابل العدم والملكة، فلو كانتاستحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر لزم استحالة الجهل في مفروضالمقام، مع أنّه ضروري وجدانا.
وثانيهما: أنّ الإنسان يستحيل أن يكون قادرا على الطيران في السماء معأنّ عجزه عنه ضروري وليس بمستحيل، فلو كانت استحالة أحد المتقابلينبتقابل العدم والملكة تستلزم استحالة الآخر لكانت استحالة القدرة فيمفروض المثال تستلزم استحالة العجز مع أنّ الأمر ليس كذلك.
وأمّا حلاًّ فلأنّ قابليّة المحلّ المعتبرة في التقابل المذكور لا يلزم أن تكونشخصيّة في جزئيّات مواردها، بل يجوز أن تكون صنفيّة أو نوعيّة أو جنسيّةكما قال به الفلاسفة، فلا يعتبر في صدق العدم المقابل للملكة على مورد أنيكون ذلك المورد بخصوصه قابلاً للاتّصاف بالوجود ـ أي الملكة ـ بل كميكفي ذلك يكفي في صدقه عليه، أن يكون صنف هذا الفرد أو نوعه أو جنسهقابلاً للاتّصاف بالوجود وإن لم يكن شخص هذا الفرد قابلاً للاتّصاف به.
ويتّضح ذلك ببيان الأمثلة المتقدّمة، فإنّ الإنسان قابل للاتّصاف بالعلموالمعرفة، ولكن قد يستحيل اتّصافه به في خصوص لأجل خصوصيّة فيه،وذلك كالعلم بذات الواجب تعالى حيث يستحيل اتّصاف الإنسان به، مع أنّصدق العدم ـ وهو الجهل ـ عليه ضروري، ومن الطبيعي أنّ هذا ليس إلاّ
(صفحه 569)
من ناحية أنّ القابليّة المعتبرة في الأعدام والملكات ليست خصوص القابليّةالشخصيّة.
وكذلك الحال في المثال الثاني، فإنّ اتّصاف الإنسان بالعجز عن الطيران إلىالسماء بلحاظ قابليّته في نفسه للاتّصاف بالقدرة لا بلحاظ إمكان اتّصافه بهفي خصوص هذا المورد، وقد عرفت أنّه يكفي في صدق العدم القابليّة النوعيّة،وهي موجودة في مفروض المثال.
وهكذا في ما نحن فيه، فإنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ولو كان تقابلالعدم والملكة، إلاّ أنّه بالنسبة إلى نوع الإطلاق والتقييد؛ لأنّ امتناع أحدهمنوعا لا يستلزم امتناع الآخر، وأمّا استلزام امتناع أحدهما في مورد خاصّامتناع الآخر، فلا يوجب أن تكون الملازمة بين استحالة التقييد واستحالةالإطلاق مطلقا.
ثمّ ذكر لهذا الجواب مكمّلاً، وهو أنّ معنى التقييد عبارة عن اعتبار قصدالقربة، ومعنى الإطلاق عبارة عن عدم اعتبارها، فكيف يمكن أن يكونالاعتبار وعدم الاعتبار كلاهما ممتنعين؟! على أنّ تقابل العدم والملكة هوتقابل الإيجاب والسلب في الحقيقة، إلاّ أنّه تعتبر في الأوّل القابليّة، ولا تعتبرفي الثاني، وهذا مائزٌ بينهما فقط، ومن البديهي أنّ امتناع الإيجاب لا يسريإلى السلب، بل السلب يكون ضروريّا مع امتناع الإيجاب، وهذا المعنىمتحقّق في العدم والملكة أيضا، فإذا كان التقييد ممتنعا فلا يلزم أن يكونالإطلاق أيضا ممتنعا، بل هو ضروري.
وبالنتيجة: أنّ التمسّك بالإطلاق في مورد الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة لنفياعتبار قصد القربة كسائر الأجزاء والشرائط لا مانع منه. وإذا لم يمكنّا التمسّك
(صفحه570)
بالإطلاق على فرض تماميّة مبنى صاحب الكفاية أو لعدم تماميّة مقدّماتالحكمة فتصل النوبة إلى الأصل العملي.
ونبحث ههنا في مقامين: الأوّل: في الأصل العملي العقلي، الثاني: في الأصلالعملي الشرعي، وقد عرفت الاختلاف في ما نحن فيه على قولين ـ أياستحالة أخذ قصد القربة في المتعلّق وجوازه ـ كاختلافهم في الأقلّ والأكثرالارتباطيّين على قولين ـ أي القول بجريان البراءة العقليّة والقول بجريانالاحتياط العقلي ـ وأمّا على القول بإمكان الأخذ في المتعلّق فلا فرق بين المقاموبين الشكّ في جزئيّة السورة ـ مثلاً ـ من حيث جريان البراءة والاشتغال،فإنّ كليهما من صغريات مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين،وأمّا على القول باستحالة الأخذ في المتعلّق فلازم القول بالاشتغال في مسألةدوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين والشكّ في جزئيّة السورة القولبالاشتغال في ما نحن فيه بطريق أولى؛ لأنّ العقل إذا حكم بالاشتغال في موردالشكّ في جزئيّة السورة مع إمكان أخذها في المتعلّق فيحكم بطريق أولى فيما نحن فيه بالاشتغال بعد فرض عدم إمكان الأخذ في المتعلّق.
وإنّما الكلام فيما قلنا بأصالة البراءة في مسألة دوران الأمر بين الأقلّوالأكثر الارتباطيّين هل يمكننا التمسّك بها في ما نحن فيه أم لا؟ قال المحقّقالخراساني قدسسره (1): إنّه لا مجال ههنا إلاّ لأصالة الاشتغال، ولو قيل بأصالة البراءةفيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، وذلك لأنّ الشكّ ههنا فيالخروج عن عهدة التكليف المعلوم مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها، فليكون العقاب مع الشكّ وعدم إحراز الخروج عقابا بلا بيان والمؤاخذة عليه
- (1) كفاية الاُصول 1: 113 ـ 114.