(صفحه 579)
ويمكن أن يتوهّم أنّ هذا المعنى يجري في دوران الأمر بين الواجب التعيينيوالتخييري أيضا، فإنّ الملاك المذكور ـ أي المواجهة مع الدليلين ـ ههنا أيضمتحقّق، وأحد الدليلين أوجب شيئا، والدليل الآخر أوجب شيئا آخر، ونشكّفي أنّ وجوبهما تخييري أو تعييني، فتجري أصالة الإطلاق ويستفاد منهالتعيينيّة.
ولكنّه مدفوع بأنّ مجرّد تحقّق الدليلين لا يكفي في استفادة التعيينيّة، بليعتبر أن يكون إطلاق أحد الدليلين منوطا بالمتعلّق والآخر بالهيئة كما تحقّقفي دوران الأمر بين الواجب النفسي والغيري، وأمّا الإطلاقان القابلانللتمسّك ههنا فكلاهما منوطان بالهيئة، ومن حيث قابليّة التمسّك وعدمهأيضا متساويان، فإن لم يكن أحدهما قابلاً لإثبات التعيينيّة وثانيهما أيضا كانكذلك.
وتمسّك بعض بالتبادر وقال: إنّ المتبادر من هيئة «افعل» هو الوجوبالمقيّد بقيد النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة، ومعلوم أنّ التبادر علامة الحقيقة.
وجوابه: أنّ لازم ذلك أن يكون استعمال هيئة «افعل» في الواجب الغيريوالتخييري والكفائي استعمالاً مجازيّا، كما في قوله تعالى: «يَـآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوآاْإِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ»(1) مع أنّه ليمكن الالتزام به أصلاً.
ومن الطرق التي يتمسّك بها لإثبات النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة الانصرافالناشئ من كثرة الاستعمال، ومن البديهي أنّ كثرة استعمال هيئة «افعل» فيهذه المعاني إن كان بحدّ يوجب الانصراف إليها يكون قابلاً للاستناد في المقام،
(صفحه580)
إلاّ أنّ الإشكال في تحقّق الانصراف في ما نحن فيه بعد أن نرى استعمال الهيئةفي الواجبات الغيريّة والتخييريّة والكفائيّة بحدّ لعلّه كان أزيد من استعمالها فيالواجبات النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة، فكيف يمكن ادّعاء الانصراف؟!
واختار اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1) في أصل دلالة هيئة «افعل» علىالوجوب طريقا يجري في ما نحن فيه أيضا، وهو أنّ الأمر الصادر من المولىيحتاج إلى الجواب، ومجرّد احتمال الاستحباب لا يكون عذرا للمخالفة،والعقل يحكم بالامتثال في مقام تحيّر العبد، بأنّ البعث الصادر عن المولىإيجابي أو استحبابي، وهكذا نقول: إذا أمر المولى بالوضوء ـ مثلاً ـ وشككنا فيأنّه واجب نفسي أو غيري حتّى يكون وجوبه متوقّفا على وجوب الصلاة،فالعقل يحكم بالامتثال، ومخالفة العبد بدليل احتمال كون الوجوب غيريّا ليكون عذرا، بل العقل يحكم بأنّ التكليف المسلّم من المولى يحتاج إلىالجواب، فيستفاد من هذا الطريق النفسيّة. وهكذا في الواجب التعييني والعيني،هذا تمام الكلام في هذا البحث.
- (1) مناهج الوصول إلى علم الاُصول 1: 282.
(صفحه 581)
(صفحه582)
في وقوع الأمر عقيب الحظر
المبحث السادس
وقوع الأمر عقيب الحظر
فبعد البناء على ظهور صيغة الأمر في الوجوب إذا وقع الأمر عقيب الحظرأو في مقام توهّمه ظنّا كان أو شكّا أو وهما، هل يكون موجبا لارتفاع هذالظهور فلا تدلّ حينئذ على الوجوب أم لا؟ والآراء في هذه المسألة مختلفة،فنسب إلى بعض العامّة ظهورها في الوجوب كوقوعها في غير هذه الموقعيّة،وإلى بعض تبعيّتها لما قبل النهي إن علّق الأمر بزوال علّة النهي، كما في قولهتعالى: «فَإِذَا انسَلَخَ الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ»(1)، فإنّ الأمر علّقبالانسلاخ الذي هو عبارة عن انقضاء الأشهر الحرم التي هي علّة النهي،فيفيد الوجوب الذي كان قبل الحظر، وفي قوله تعالى: «وَإِذَا حَلَلْتُمْفَاصْطَادُواْ»(2) يفيد الإباحة التي هي حكم الصيد قبل النهي عنه، وأمّا إن لميكن معلّقا بزوال علّة عروض النهي أو لم يكن معلّقا أصلاً أو وقع في مقامتوهّم الحظر فيفيد الوجوب.
ونُسب إلى المشهور ظهورها في الإباحة في كلا الفرضين، ولكن لابدّ لن
(صفحه 583)
قبل الخوض في البحث من توضيح كلام المشهور، وقد تقدّم مرارا أنّ أصالةالظهور من الاُصول المعتبرة العقلائيّة، وأعمّ من أصالة الحقيقة، فكما تحقّق فيالاستعمالات الحقيقيّة كذلك تحقّق في الاستعمالات المجازيّة المحفوفة بالقرينة،فيكون لمجموع «أسدا يرمي» ـ مثلاً ـ ظهور في المعنى المجازي، وحينئذٍ نلاحظأنّ ظهور الصيغة في الإباحة إذا وقعت عقيب الحظر أو في مقام توهّمه، هليكون من سنخ ظهورها في الوجوب إذا وقعت في غير هذين الموقعيّتين أملا؟ بمعنى أنّ كليهما مستندان إلى الوضع، وقول الواضع بأنّه وضعتها للإباحةإذا وقعت في هذين الموقعيّتين، ووضعتها للطلب الوجوبي إذا وقعت في غيرهذين الموقعيّتين، أو أنّها وضعت للبعث الوجوبي من حيث الوضع، وأمّوقوعها في أحد هاتين الموقعيّتين تكون بمنزلة «يرمي» في قولنا: «رأيت أسديرمي»، يعني يتحقّق لها الظهور في المعنى المجازي اتّكالاً على القرينة، إلاّ أنّالقرينة قد تكون جزئيّة وشخصيّة كما في المثال المذكور، وقد تكون كلّيّةوعامّة كما في ما نحن فيه.
فيكون وقوع الأمر عقيب النهي أو في مقام توهّمه قرينة صارفة عن المعنىالحقيقي إلى المعنى المجازي، فينحلّ نظر المشهور في الحقيقة إلى ادّعاءين:أحدهما: ادّعاء سلبي، وهو أنّ الأمر في هاتين الموقعيّتين ليس بظاهر في المعنىالحقيقي والبعث الوجوبي.
وثانيهما: ادّعاء إثباتي، وهو أنّ الأمر في هاتين الحالتين ظاهر فيخصوص الإباحة، فهل يمكننا موافقة المشهور في كلا الحكمين أو في الحكمالأوّل فقط لجهة خاصّة؟ فيكون موجبا لإجماله بعد ارتفاع ظهوره الأوّليفي الوجوب.