قبل الخوض في البحث من توضيح كلام المشهور، وقد تقدّم مرارا أنّ أصالةالظهور من الاُصول المعتبرة العقلائيّة، وأعمّ من أصالة الحقيقة، فكما تحقّق فيالاستعمالات الحقيقيّة كذلك تحقّق في الاستعمالات المجازيّة المحفوفة بالقرينة،فيكون لمجموع «أسدا يرمي» ـ مثلاً ـ ظهور في المعنى المجازي، وحينئذٍ نلاحظأنّ ظهور الصيغة في الإباحة إذا وقعت عقيب الحظر أو في مقام توهّمه، هليكون من سنخ ظهورها في الوجوب إذا وقعت في غير هذين الموقعيّتين أملا؟ بمعنى أنّ كليهما مستندان إلى الوضع، وقول الواضع بأنّه وضعتها للإباحةإذا وقعت في هذين الموقعيّتين، ووضعتها للطلب الوجوبي إذا وقعت في غيرهذين الموقعيّتين، أو أنّها وضعت للبعث الوجوبي من حيث الوضع، وأمّوقوعها في أحد هاتين الموقعيّتين تكون بمنزلة «يرمي» في قولنا: «رأيت أسديرمي»، يعني يتحقّق لها الظهور في المعنى المجازي اتّكالاً على القرينة، إلاّ أنّالقرينة قد تكون جزئيّة وشخصيّة كما في المثال المذكور، وقد تكون كلّيّةوعامّة كما في ما نحن فيه.
فيكون وقوع الأمر عقيب النهي أو في مقام توهّمه قرينة صارفة عن المعنىالحقيقي إلى المعنى المجازي، فينحلّ نظر المشهور في الحقيقة إلى ادّعاءين:أحدهما: ادّعاء سلبي، وهو أنّ الأمر في هاتين الموقعيّتين ليس بظاهر في المعنىالحقيقي والبعث الوجوبي.
وثانيهما: ادّعاء إثباتي، وهو أنّ الأمر في هاتين الحالتين ظاهر فيخصوص الإباحة، فهل يمكننا موافقة المشهور في كلا الحكمين أو في الحكمالأوّل فقط لجهة خاصّة؟ فيكون موجبا لإجماله بعد ارتفاع ظهوره الأوّليفي الوجوب.
ولكن لابدّ من نظرٍ إجمالي إلى أدلّة الأقوال كما قال صاحب الكفاية(1): إنّأرباب الأقوال المذكورة تمسّكوا لمدّعياتهم بجملة من موارد الاستعمالات، مثلأمر الطبيب بأكل بعض المأكولات بعد النهي عنها للمريض بدلالته علىالإباحة وأمثال ذلك، مع أنّه لا مجال للتمسّك بها، فإنّه قلّ مورد منها يكونخاليا عن قرينة على الوجوب أو الإباحة أو التبعيّة، فلا يصلح الاستدلال بهعلى كون مجرّد وقوع الأمر عقيب الحظر قرينة على ما ادّعوه من الأقوالالمذكورة بعنوان قاعدة كلّيّة.
ووافق صاحب الكفاية قدسسره المشهور في الادّعاء السلبي وهو: أنّ الأمر إذوقع عقيب الحظر أو في مقام توهّمه ليس بظاهر في المعنى الحقيقي، وخالفهم فيالادّعاء الإثباتي، وهو: ظهوره في هذين المقامين في الإباحة، بل هو قائل بأنّالوقوع في أحد هذين المقامين قرينة صارفة فقط، وليست بقرينة معيّنة فيصيرالأمر حينئذٍ مجملاً، فلا يحمل على أحد المعاني من الوجوب والإباحة وأمثالذلك إلاّ بقرينة اُخرى.
ومبنى هذه المسألة أنّه إذا كانت في الكلام قرينة وشككنا في أنّ المتكلّماعتمد على هذه القرينة أم لا فليس له ظهور، لا في المعنى الحقيقي ولا في المعنىالمجازي.
ولا محلّ ههنا لأصالة الظهور، فإنّ التمسّك بها فرع إحراز أصل الظهوروتحقّقه، فإذا كان في الكلام كلمتان وكان بعدهما قرينة واحدة، ونحن نعلمإرجاعها إلى واحد منهما ونشكّ في إرجاعها إلى الآخر، فيصير المشكوك فيهمجملاً، كقولنا: «رأيت أسدا وذئبا يرمي» والمتيقّن إرجاعها إلى كلمة
- (1) كفاية الاُصول 1: 116.
(صفحه 585)
«الذئب»، وأمّا الإرجاع إلى كلمة «الأسد» فمشكوك، فليس لها ظهور فيالمعنى الحقيقي؛ لاحتمال الاعتماد على القرينة، ولا في المعنى المجازي؛ لاحتمالعدم الاعتبار بها، وإذا كان الأمر كذلك فلا مجال للتمسّك بأصالة الظهور.
وأمّا أصالة الحقيقة فإن قلنا بعدم استقلالها في قبال أصالة الظهور ـ بل أنّهشعبة من أصالة الظهور كما هو الحقّ ـ فلا مجال لكليهما في المقام بعد اشتمالالكلام على ما يصلح للقرينيّة.
وأمّا على القول بحجّيّتها تعبّدا عند العقلاء فيحمل الكلام على المعنىالحقيقي ولو لم يكن ظاهرا فيه؛ لأصالة الحقيقة ولكونها معتبرة عند العقلاءتعبّدا، ولكنّه ليس بقابل للقبول؛ لعدم التعبّد في الاُمور العقلائيّة.
وبالنتيجة ليس للأمر الواقع بعد الحظر أو في مقام توهّمه ظهور لا في المعنىالحقيقي ولا في المعنى المجازي كما في المثال الذي ذكرناه، إلاّ أنّ القرينة فيهلفظيّة وشخصيّة، وفي المقام حاليّة وكلّيّة، ولا فرق بين القرائن من هذه الجهةبعد الاشتراك في أصل صلاحيّة القرينيّة.
هذا توضيح ما قال به صاحب الكفاية في هذه المسألة. والحقّ أنّه كلاممتين ونفيس جدّا.