(صفحه 599)
الممتثل كما نقل عن المحقّق الخراساني قدسسره في درسه، وإن يستفاد من عبارةالكفاية(1) القول الأوّل؛ إذ يقول: فيكون إيجاد الطبيعة في ضمن الأفرادكإيجادها في ضمن الواحد.
وقال المرحوم البروجردي قدسسره في مقام الاستدلال: إنّ الطبيعة متكثّرة بتكثّرالأفراد، ولا يكون فردان أو أفراد منها موجودة بوجود واحد؛ لأنّ المجموعليس له وجود غير وجود الأفراد، فكلّ فرد محقّق للطبيعة، ولمّا كان المطلوبهو الطبيعة بلا قيد بالمرّة أو التكرار فحينئذٍ إذا أتى المكلّف بأفراد متعدّدة فقدأوجد المطلوب في ضمن كلّ فرد مستقلاًّ، فيكون كلّ فرد امتثالاً برأسه كما هوموجود برأسه وبنفسه، نظير ذلك الواجب الكفائي حيث إنّ الأمر فيه متعلّقبنفس الطبيعة، ويكون جميع المكلّفين مأمورين بإتيانها، فمع إتيان واحد منهميسقط الوجوب عن الباقي. وأمّا لو أتى به عدّة منهم دفعة فيعدّ كلّ واحدممتثلاً، ويحسب الكلّ امتثالاً مستقلاًّ لا أن يكون فعل الجميع امتثالاً واحدا.هذا تمام كلامه على مانقل عنه الإمام .
وقال الإمام قدسسره (2) في مقام جوابه بما حاصله: إنّ الملاك في وحدة الامتثالوتعدّده عبارة عن وحدة التكليف وتعدّده، فإن كان التكليف واحدفالامتثال أيضا واحد، وإن كان التكليف متعدّدا فالامتثال أيضا متعدّد، إلأنّ لتعدّد التكليف طرقاً متعدّدة، فقد يكون بنحو الصلاة والصوم... وتعدّدالتكليف فيها بتعدّد عناوين المكلّف به، وقد يكون تعدّد التكليف بنحو العامّالاستغراقي، مثل: «أكرم كلّ عالم»، والحكم فيه ينحلّ ويتعدّد بتعدّد مصاديق
- (1) كفاية الاُصول 1: 121.
- (2) مناهج الوصول إلى علم الاُصول 1: 289 ـ 291.
(صفحه600)
العالم، فيكون إكرام كلّ فرد واجبا برأسه، ولذا يمكن الامتثال والموافقةبالنسبة إلى بعض الأفراد والمخالفة بالنسبة إلى البعض الآخر. فإذا الامتثالفرع الطلب، كما أنّ العقوبة فرع ترك المطلوب، فلا يمكن الامتثالات مع وحدةالطلب ولا استحقاق عقوبة واحدة مع كثرته.
أضف إلى ذلك أنّ قياس ما نحن فيه على الواجب الكفائي قياس معالفارق؛ لأنّ البعث في الواجب الكفائي يتوجّه إلى عامّة المكلّفين بحيث يصيركلّ مكلّف مخاطبا بالحكم، فهناك طلبات كثيرة وامتثالات عديدة، لكن لوأتى به مكلّف واحد منهم يسقط التكليف عن الباقي؛ لحصول الغرض وارتفاعالموضوع، وإن تركوها رأسا لعوقبوا جميعا، وإن أتاها الجميع دفعة فقد امتثلوكافّةً؛ لكون كلّ فرد منهم محكوما بحكمه ومخاطبا ببعثه المختصّ، بخلاف المقام.
وأضعف من ذلك ما نقل عن درس المحقّق الخراساني قدسسره ؛ إذ لا دخل للقصدوعدمه بدون العمل لا في أصل الامتثال ولا في تعدّده ووحدته.
فالحقّ أنّ تعدّد الامتثال ووحدته يدور مدار تعدّد التكليف ووحدته كمقال به الإمام قدسسره .
هذا في الأفراد العرضيّة، وأمّا البحث في الأفراد الطولية فقد يكون غرضالمكلّف من الإتيان بالفرد الثاني تبديل الامتثال، وقد يكون غرضه منه تكميلالامتثال ليعدّ الإتيانان امتثالاً واحدا.
وكان لصاحب الكفاية قدسسره (1) في هذه الصورة تفصيل، وهو أنّه إذا كان امتثالالأمر علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى بحيث يحصل بمجرّد الامتثال فلا يبقىمعه مجال لإتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثال
- (1) كفاية الاُصول 1: 121 ـ 122.
(صفحه 601)
واحداً؛ لما عرفت من حصول الموافقة بإتيان الطبيعة مرّة وسقوط الغرضمعها، وسقوط الأمر بسقوطه، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلاً.
وأمّا إذا لم يكن الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى ـ كما إذا أمربإتيان الماء ليشرب أو يتوضّأ فاُتي به ولم يشرب أو لم يتوضّأ فعلاً ـ فلا يبعدصحّة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا.
هذا، والحقّ أنّ هذا التفصيل ليس بتام؛ لأنّ الغرض الأقصى الذي له دخلفي الأمر عبارة عمّا يترتّب على فعل المكلّف، لا ما يترتّب على فعل المأموروالآمر معا، وهو جعل العبد الماء تحت اختيار المولى، فيكون فعل المكلّف علّةتامّة لتحقّق هذا الغرض، وإذا تحقّق الغرض يسقط الأمر، فكيف يمكن أنتتحقّق طبيعة المأمور به في ضمن الفرد الأوّل ومع ذلك لم يحصل الغرضالأقصى؟!
وبالنتيجة إذا تحقّق الفرد الأوّل يحصل الغرض، وإذا حصل الغرض فلا يبقىمحلاًّ للفرد الثاني؛ إذ لا أمر في البين بعد حصول الغرض، وأمّا فعل المولى منالشرب والوضوء وعدمهما فلا دخل له بالامتثال. هذه نتيجة البحث فيالأفراد الطوليّة، وبه يتمّ الكلام في المرّة والتكرار.
(صفحه602)
في الفور والتراخي
المبحث الثامن
في الفور والتراخي
اختلف العلماء في أنّ صيغة الأمر هل تدلّ على الفور أو التراخي أو لدلالة لها على الفور ولا على التراخي؟ لا يخفى أنّ مقصود القائل بالفور تقيّدمفاد الصيغة به وأنّ الفور واجب، ومقصود القائل بالتراخي تقيّده به وأنّالتراخي واجب، ومقصود القائل بعدم دلالتها عليهما عدم تقيّدها بهما وأنّهممعاً جائزان كما قال به صاحب الكفاية قدسسره (1)، ويجري ههنا جميع ما مرّ فيمبحث المرّة والتكرار، إلاّ ما أشكل به الإمام قدسسره من أنّ النزاع إن كان مربوطبالهيئة فيستحيل تعلّق البعث والتحريك مكرّرا بطبيعة واحدة تأسيسا بلفرق زمانا ومكانا؛ إذ لا مانع من تعلّقه بها متراخيا.
واختار عدّة من المحقّقين القول الثالث من الأقوال، واستدلّوا عليه بالتبادر،وأنّ ما ينسبق من الصيغة إلى الذهن عبارة عن طلب الطبيعة والماهيّة، بلدلالة على تقييدها بالفور أو التراخي، وقد مرّ أنّ قيد الإيجاد أيضا ليس جزءمدلول الصيغة، بل تدلّ اللابدّيّة العقليّة والعرفيّة بدخله فيه، خلافا لما نُسب
- (1) كفاية الاُصول 1: 122.
(صفحه 603)
إلى صاحب الفصول(1)، ويؤيّده أنّ الفور والتراخي من قيود الزمان، وكما أنّالمكان لا يتبادر منها كذلك الزمان لا ينسبق إلى الذهن.
والقائل بالفور بعد تسليم هذا الانسباق يقول: إنّ لنا طرقاً اُخر لاستفادةالفوريّة لا في جميع الأوامر، بل في الأوامر الشرعيّة فقط:
أحدها: ما حكيناه عن المحقّق الحائري قدسسره فيما مضى، ومن الآثار المترتّبةعليه الفوريّة في هذا المبحث، وهو أنّ العلل الشرعيّة كالعلل التكوينيّة فيجميع الأحكام والآثار والخصوصيّات، ومن الآثار المتحقّقة في العلل التكوينيّةفوريّة ترتّب المعلول على علّته وعدم انفكاك المعلول عنها خارجا، وهكذا فيالعلل الشرعيّة، فإذا تحقّقت العلّة الشرعيّة يتحقّق المعلول الشرعي، ومنالعلل الشرعيّة الأوامر، فبمجرد تحقّق الأوامر الشرعيّة لابدّ من تحقّق المعلولفورا بواسطة المكلّف.
وجوابه: تقدّم أنّه لا دليل على هذا التشبيه، سيّما التشبيه بجميع الآثار التيمنها تحقّق المعلول بتحقّق العلّة، فهو ادّعاء بلا دليل.
على أنّ لنا دليلاً على خلافه، وهو أنّه لا يقدر أحد ـ سوى الباري ـ علىسلب العلّيّة عن العلّة التكوينيّة، ولكن في الواجبات الشرعيّة نحن نرى كثيرمّا تحقّق الوجوب فعلاً، مع أنّ الواجب لا يتحقّق إلاّ بعد مدّة مديدة كما فيالواجب المعلّق مثل الحجّ؛ لأنّ وجوبه يتحقّق بمجرّد تحقّق الاستطاعة، ولذيجب على المكلّف الإتيان بالمقدّمات، وأمّا الواجب فلا يتحقّق إلاّ في الموسم،فانتقض هذا الدليل العقلي أو شبه العقلي بهذا المورد؛ بأنّ القول بالواجبالمعلّق يستلزم التفكيك بين العلّة والمعلول الشرعي.