(صفحه604)
وثانيها: أنّ عدّة من الآيات تدلّ على الفوريّة كقوله تعالى: «وَسَارِعُوآاْ إِلَىمَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ»(1) و «فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَ تِ»(2).
وتقريب الاستدلال: أنّ الآيتين تدلاّن على وجوب المسارعة والاستباقإلى سبب المغفرة والخير؛ إذ لا معنى للاستباق والمسارعة إلى نفس المغفرةوالخير بعد كونهما من أفعاله تعالى، ولا سبب لهما أعظم من الواجبات وامتثالأوامره تعالى، فيجب إتيانها وإطاعة الأوامر فورا.
وأجابوا عن هذا الاستدلال بأجوبة متعدّدة، بعضها مختصّ بآية واحدةولا يجري في الاُخرى، وبعضها الآخر مشترك بين الآيتين.
وأمّا الجواب الاختصاصي عن الآية الاُولى فهو: أنّ وجوب المسارعة فيالآية لا ينحصر بسبب المغفرة؛ إذ يقول اللّه تعالى في ذيل الآية: «وَجَنَّةٍعَرْضُهَا السَّمَـوَ تُ وَالاْءَرْضُ»، والظاهر أنّ المعطوف مغاير مع المعطوف عليه،وبعد أن لا يكون لنا تكليف بعنوان المسارعة إلى الجنّة في مقابل سائرالتكاليف الإلهيّة يستفاد أنّ الأمر في الآية إرشادي ولا يدلّ على الوجوب،ولا يعقل أن يكون الأمر بالنسبة إلى المعطوف عليه مولويّا وبالنسبة إلىالمعطوف إرشاديّا، فلا محالة يحمل الأمر بالسرعة في كلتا الجملتين علىالإرشادي.
وأمّا الجواب المشترك بين الآيتين فهو يجري في الآية الاُولى بأنّ هيئة«سارعوا» تكون من باب المفاعلة، ويتعلّق اللحاظ فيه بالطرفين، فأوجب اللّهتعالى بالآية المسارعة والمسابقة إلى فعل المأمور به بين المكلّفين، وهذا المعنى
(صفحه 605)
لا يجري في الواجبات العينيّة كالصلاة والصوم والحجّ وأمثال ذلك؛ إذ الواجبفيها إتيان كلّ واحد من المكلّفين وظيفته بلا دخل له بوظيفة سائر المكلّفين،ولا معنى للمسارعة لكلّ واحد منهم على الآخر بالنسبة إلى وظيفته، وحركةالمتديّنين سريعا في أوّل الوقت إلى المساجد تكون لإدراك فضيلة الجماعةوأوّل الوقت لا لمسابقة بعضهم البعض الآخر.
وإنّما يجري هذا الاستدلال في الواجبات الكفائيّة فقط، فإنّ غرض المولىفيها يتحقّق بعمل شخص واحد، فإن خالف الجميع يكون مستحقّا للعقوبة،وإن وافق أحد منهم يصدق عليه عنوان المطيع ويستحقّ المثوبة، ولا يصدقعلى سائر المكلّفين عنوان العاصي ولا عنوان المطيع ولا يستحقّون المثوبة ولالعقوبة، فيصدق ههنا عنوان المسارعة.
وهكذا في آية: «فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَ تِ» إلاّ أنّ السبق واللحوق يستفاد منمادّة السبق لا من هيئته، فالاستدلال بها يصحّ في الواجبات الكفائيّة فقط لالعينيّة، ولا معنى للسبق إلى الصلاة والصوم وأمثال ذلك.
ويمكن أن يقال: إنّ دلالة الآيتين على وجوب المسارعة والفوريّة فيالواجبات الكفائيّة كافية في الاستدلال، فإنّا نستفيد بضميمة عدم القولبالفصل وجوب الفوريّة في الواجبات العينيّة أيضا، ويثبت المدّعى.
وفيه: أوّلاً: أنّه لا يستفاد من ارتباط الآيتين بالواجبات الكفائيّة وجوبالمسارعة والاستباق، وأنّ في كلّ واحد من الواجبات الكفائيّة يتحقّقتكليفان: أحدهما: أصل الواجب، وثانيهما: المسارعة إليه، بل التكليف واحد،ولكنّ المسارعة والاستباق إليه راجح ومستحبّ.
وثانيا: أنّ الاستباق والمسارعة لا يكون بمعنى الفوريّة؛ لأنّ الاستباق
(صفحه606)
والمسارعة يصدق مع التراخي أيضا؛ لأنّ إتيان بعض المكلّفين العمل قبلبعض الآخر يصدق أنّه استبق العمل بالنسبة إلى غيره، فلا يستفاد من الآيتينالدلالة على الفوريّة قطعا.
ومع قطع النظر عن هذه الإشكالات نبحث أيضا في أنّ ظهور آية«فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَ تِ» في العموم لا يكون قابلاً للمناقشة، فإنّ دلالة الجمعالمحلّى باللام على العموم متّفق عليه، فيكون مفاد الآية: واستبقوا إلى كلّ ما هوخير، وهذا يوجب الإشكال من حيث شمولها المستحبّات كما سيأتي.
وأمّا الاستدلال بآية: «وَسَارِعُوآاْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ» فهو مبتنٍ على أنيكون لفظ السبب مقدّرا؛ إذ المغفرة من أفعاله تعالى، ولا معنى للسرعة إلىفعل الغير، فلابدّ أن يكون المقدّر ما هو فعل المكلّف وهو السبب، وهذا أيضيكون قابلاً للمناقشة؛ بأنّ فعل الغير على قسمين: فإنّه قد لا يكون مربوطبهذا المكلّف بوجه، وحينئذٍ لا معنى للسرعة إلى هذا النحو من فعل الغير،وقد يكون مربوطا بالمكلّف في عين كونه من أفعال الغير، وحينئذٍ لا مانع منأن تكون السرعة إلى فعل الغير واجبا بلحاظ هذا الارتباط، كقولنا للطالبمثلاً: «اسرع إلى الشهريّة»، مع أنّ إعطاء الشهريّة فعل الغير، ولكنّ طرفإضافة الإعطاء هو الطالب، ولذا يصحّ هذا القول له، والمغفرة أيضا من هذالقبيل؛ إذ يصحّ أنّ المغفرة فعل اللّه تعالى.
وأمّا بلحاظ ارتباطه بالمكلّفين فلا مانع من قولنا: «اسرعوا إلى مغفرة منربّكم». هذا أوّلاً.
على أنّه يرد على كلا فرضي التقدير وعدمه إشكال مهمّ آخر، وهو أنّه لوفرضنا عدم التقدير في الآية فتكون المغفرة نكرة موصوفة، ومعناها: سارعوا
(صفحه 607)
إلى مغفرة موصوفة بأنّها من ربّكم، ومعلوم أنّ النكرة الموصوفة ليست منالألفاظ الدالّة على العموم.
وإن فرضنا كون السبب مقدّرا وكان معناها: «واسرعوا إلى سبب المغفرة»فيكون سبب المغفرة نكرة مضافة، وهي أيضا لا تكون من الألفاظ الدالّة علىالعموم، وإن كانت هي أقرب إلى العموم.
ولو فرضنا دلالة النكرة مضافة إلى العموم بخلاف النكرة الموصوفة، فهلتعامل مع مثل الآية معاملة النكرة المضافة، أو تعامل معاملة النكرةالموصوفة؟ لعلّ الملاك فيه ما هو ظاهر اللفظ لا ما هو المقدّر.
ويؤيّد عدم دلالة الآية على العموم اختلاف المفسّرين في تفسير الآية، بأنّالمقصود من المغفرة الصلوات اليوميّة عند بعض، والدخول في الصفّ الأوّلمن الجماعة عند بعض، والسرعة في الاقتداء ـ أي في الصلوات ـ عند بعض،والتوبة عند بعض، والجهاد في سبيل اللّه عند بعض، والإخلاص في العمل عندبعض، ولم يقل أحد منهم بدلالتها على العموم، وأنّها لا تنحصر بالمصاديق،فإن لم تدلّ على العموم ينهدم أساس الاستدلال.
ومع قطع النظر عن الإشكالات وفرض دلالة كلتا الآيتين على العموم يردعليه:
أوّلاً: أنّه لا شكّ في كون المستحبّات كالواجبات خيرا، وهكذا في سببيّتهللمغفرة، بل تكون سببيّتها للمغفرة أولى من بعض الواجبات، فلا يمكنخروج المستحبّات بحسب الدلالة اللفظيّة عن الآيتين، فكيف يمكن الالتزامبوجوب الاستباق إليها مع أنّها من العناوين المستحبّة؟!
وثانيا: أنّ الفوريّة والاستباق في أكثر الواجبات أيضا ليس بواجب
(صفحه608)
ـ كالصلاة والزكاة مثلاً ـ وأمّا الواجبات المضيّقة ـ كالصوم ـ فلا معنى للفوريّةفيها، فيبقى تحت الآيتين عدّة من الواجبات كالحجّ والجهاد في سبيل اللّهخصوصا إن كان دفاعيّا، وعلى هذا إن حملنا الآيتين مع عمومهما علىالوجوب يلزم تخصيص الأكثر، وهو مستهجن، مع أنّ لحن الآيتين وسياقهمآبٍ عن التخصيص، ولا يكون قابلاً له، فلا محالة يتعيّن القول بعدم دلالةالآيتين على الوجوب؛ لدفع هذه المحذورات، وإن دلّتا من حيث الهيئة علىالوجوب.
وأشكل على الاستدلال بآية «فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَ تِ» بأنّه سلّمنا أنّ هيئةالأمر وضعت للبعث والتحريك الوجوبي، إلاّ أنّ ههنا قرينة عقليّة تمنع منحملها عليه؛ إذ الاستباق والتقدّم بالنسبة إلى الخيرات لا بالنسبة إلى المكلّفين،فكأنّه يقول: «قدّموا بعض الخيرات على بعض»، والملاك في التقديم عبارة عننفس الاتّصاف بالخيريّة ونفس انطباق عنوان الخير، ولم تلاحظ في الآيةالمراتب الشديدة والضعيفة، وليس ملاك الاستباق كون الخير في المرتبة القويّة،بل الملاك نفس الاشتراك في الخيريّة.
وأمّا في مقام العمل فلا محالة يتحقّق التقدّم والتأخّر؛ إذ المفروض عدمإمكان الجمع بين جميع الخيرات في آنٍ واحد، وإذا كان الأمر كذلك فالسؤالالمطروح: ما مزيّة المتقدّم على المتأخّر وما نقص المتأخّر بالنسبة إلى المتقدّم،مع أنّهما مشتركان في أصل الملاك، وصدق عنوان الخيريّة عليهما سواء؟ وعلىهذا إن حملنا الهيئة في الآية على وجوب الاستباق يلزم من وجوب الاستباقإلى الخير الأوّل عدم وجوب الاستباق إلى الخير الثاني، فيلزم من وجودهعدمه، وهو محال، وهذه القرينة العقليّة توجب رفع اليد عن مفاد الهيئة.