(صفحه60)
ومنها: أنّهم يقولون: إنّ موضوع علم النحو هو الكلمة والكلام من حيثالإعراب والبناء، وموضوع علم الصرف هو الكلمة والكلام من حيث الصحّةوالإعلال، ولو كان مرادهم الجامع الجنسي فلابدّ من جعلهم الكلمة والكلاملكليهما موضوعاً، فلا احتياج إلى جعلهم لكلّ واحد منهما نوعاً من الكلمةوالكلام موضوعاً، فالمراد من الجامع عندهم الجامع النوعي، ومعناه أنّه يشملجميع أفراده بتمامه.
إذا عرفت هاتين المقدّمتين فنقول: إنّ مجرّد ذكر عنوان الجامع لا يوجبحلّ المسألة ههنا، بل لابدّ من أن يكون الجامع نوعيّاً، ولاشكّ في أنّ انتزاعهلا يمكن في صورة مشكوكيّة عدّة من المسائل، فإنّا لو فرضنا ـ مثلاً ـ لعلمالنحو ألف مسألة مسلّمة وعشرة مسائل مشكوكة، فمن أين ينتزع الجامع؟ إنانتُزِع من ألف مسألة معلومة يمكن أن يكون هذا الجامع صنفاً والمسائلالمشكوكة صنفاً آخر لها، ولا معنى لانتزاعه من المسائل المشكوكة وغيرها،فإنّ اللازم عدم شمول الجامع النوعي غير أفراد مسائله. وكيف كان، فالجامعلا يكون موجباً للتمايز.
ولا يخفى أنّ هذا الإشكال وسابقه غير قابلين للدفع.
والنظر الآخر في المسألة ما عن بعض الأعلام على ما في المحاضرات(1) وهوبعد نقل كلام المشهور وكلام صاحب الكفاية في المقام قال: والتحقيق في المقامأن يقال: إنّ إطلاق كلّ من القولين ليس في محلّه، وبيان ذلك: أنّ التمايز فيالعلوم تارةً يراد به التمايز في مقام التعليم والتعلّم لكي يقتدر المتعلّم ويتمكّنمن تمييز كلّ مسألة ترد عليه، ويعرف بأنّها مسألة اُصوليّة أو مسألة فقهيّة
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 26 ـ 28.
(صفحه 61)
أو غيرهما، واُخرى يراد به التمايز في مقام التدوين، وبيان ما هو الداعيوالباعث لاختيار المدوّن عدّة من القضايا والقواعد المتخالفة وتدوينها علمواحداً وتسميتها باسم فارد، واختياره عدّة من القضايا والقواعد المتخالفةالاُخرى وتدوينها علماً آخر وتسميتها باسم آخر وهكذا.
وأمّا التمايز في المقام الأوّل فيمكن أن يكون بكلّ واحد من الموضوعوالمحمول والغرض، بل يمكن أن يكون ببيان فهرس المسائل والأبواب إجمالاً،والوجه في ذلك هو أنّ حقيقة كلّ علم حقيقة اعتباريّة، وليست وحدتهوحدة بالحقيقة والذات ليكون تمييزه عن غيره بتباين الذات، كما لو كانتحقيقة كلّ واحد منهما من مقولة على حدة أو بالفصل، كما لو كانت من مقولةواحدة، بل وحدتها بالاعتبار، وتمييز كلّ مركّب اعتباري عن مركّب اعتباريآخر يمكن بأحد الاُمور المزبورة.
وأمّا التمايز في المقام الثاني فبالغرض إذا كان للعلم غرض خارجي يترتّبعليه، كما هو الحال في كثير من العلوم المتداولة بين الناس كعلم الفقه والاُصولوالنحو والصرف ونحوها، وذلك لأنّ الداعي الذي يدعو المدوّن لأن يدوّنعدّة من القضايا المتباينة علماً ـ كقضايا علم الاُصول مثلاً ـ وعدّة اُخرى منهعلماً آخر ـ كقضايا علم الفقه ـ ليس إلاّ اشتراك هذه العدّة في غرض خاصّ،واشتراك تلك العدّة في غرض خاصّ آخر، فلو لم يكن ذلك ملاك تمايز هذهالعلوم بعضها عن بعض في مرحلة التدوين بل كان هو الموضوع لكان اللازمعلى المدوّن أن يدوّن كلّ باب بل كلّ مسألة علماً مستقلاًّ لوجود الملاك، كمذكره صاحب الكفاية قدسسره .
وأمّا إذا لم يكن للعلم غرض خارجي يترتّب عليه سوى العرفان
(صفحه62)
والإحاطة به ـ كعلم الفلسفة الاُولى ـ فامتيازه عن غيره إمّا بالذّات أوبالموضوع أو بالمحمول، كما إذا فرض أنّ غرضاً يدعو إلى تدوين علم يجعلالموضوع فيه «الكرة الأرضيّة» ـ مثلاً ـ ويبحث فيه عن أحوالها من حيثالكمّيّة والكيفيّة والوضع والأين، إلى نحو ذلك، وخواصّها الطبيعيّة ومزاياهعلى أنحائها المختلفة، أو إذا فرض أنّ غرضاً يدعو إلى تدوين علم يجعلموضوعه «الإنسان» ويبحث فيه عن حالاته الطارئة عليه، وعن صفاته منالظاهريّة والباطنيّة، وعن أعضائه وجوارحه وخواصّها، فامتياز العلم عنغيره في مثل ذلك إمّا بالذات أو بالموضوع ولا ثالث لهما؛ لعدم غرضخارجي له ماعدا العرفان والإحاطة ليكون التمييز بذلك الغرض الخارجي،كما أنّه قد يمكن الامتياز بالمحمول فيما إذا فرض أنّ غرض المدوّن يتعلّق بمعرفةما تعرضه الحركة ـ مثلاً ـ فله أن يدوّن علماً يبحث فيه عن ما تثبت الحركة له،سواء كان ما له الحركة من مقولة الجوهر أم من غيرها من المقولات، فمثل هذالعلم لا امتياز له إلاّ بالمحمول». هذا تمام كلامه.
ولا يخفى أنّ في صدر كلامه وذيله نحو تهافت، فإنّه قال: إذا لم يكنللعلم غرض خارجي يترتّب عليه سوى العرفان والإحاطة به ـ كعلمالفلسفة الاُولى ـ فامتيازه عن غيره إمّا بالذات أو بالموضوع أو بالمحمول،ثمّ بعد ذلك ذكر المثالين فقال: فامتياز العلم عن غيره في مثل ذلك إمّبالذات أو بالموضوع ولا ثالث لهما، ثمّ ذكر للتمايز مثالاً آخر. وهذا ليس إلعين التهافت.
ولكن مع غمض البصر عن ذلك ترد عليه إشكالات متعدّدة:
منها: أنّه إذا كان تمايز العلوم في مقام التدوين بالأغراض الباعثة إليها ـ كما
(صفحه 63)
قال به صاحب الكفاية قدسسره (1) ـ فلا فرق بين أن يكون الغرض علميّاً أو عمليّكما أشرنا إليه سابقاً، فإنّ ترتّب الغرض خارجاً هو العلّة الغائيّة لها. وأمّا فيمقام البعث إلى التدوين ووجوده الذهني فلا يتفاوت بين كونه علميّاً أوعمليّاً، ولكليهما وجود ذهني باعث إلى التدوين بلا تفاوت وبلا إشكال.
ومنها: قوله: «فلو لم يكن ذلك ملاك تمايز هذه العلوم بعضها عن بعض فيمرحلة التدوين بل كان هو الموضوع لكان اللازم على المدوّن أن يدوّن كلّباب، بل كلّ مسألة علماً مستقلاًّ» ففيه: أنّه قد تبيّن أنّ هذا الإشكال لا يردعلى المشهور، فإنّهم قائلون بأنّ موضوعاً واحداً من كلّ علم يوجب تمايزهعن علوم اُخرى، لا أنّ موضوع كلّ مسألة من العلم يوجب تمايزه عن علوماُخرى، وهذا التالي الفاسد لايترتّب على هذا التفسير. وأمّا التفسير الذيتخيّله صاحب الكفاية وتبعه بعض الأعلام ويترتّب عليه هذا التالي الفاسدفلم يقل به أحد فضلاً عن المشهور.
ومنها: ما في قوله: «إذا لم يكن للعلم غرض خارجي...» فامتيازه إمّبالذات أو بالموضوع أو بالمحمول، فإنّا نقول: ما معنى التمايز بالذات هل المرادمنه السنخيّة التي ذكرها الإمام ـ دام ظلّه ـ ، أو المراد منه التمايز بالحقيقة؟ فإنكان المراد هو الأوّل فلِمَ لا يستفاد منه في مقام التعليم و التعلّم، وإن كان المرادهو الثاني قلنا: هذا مردودٌ بقولك: إنّ حقيقة كلّ علم حقيقة اعتباريّة، وليستوحدتها وحدة بالحقيقة والذات ليكون تمييزه عن غيره بمتباين الذات.
وكيف كان، أنت ذكرت المثالين وقلت: التمايز فيهما إمّا بالذات وإمّبالموضوع، وذكرت مثالاً آخر للتمايز بالمحمول بدون بيان الضابطة والملاك لهذ
(صفحه64)
التمايز والتمايز بالذات وبالموضوع، مع أنّ الغرض في هذا البحث ليس إلاّ بيانالضابطة للتمايز.
مع أنّه لا نعلم مراده من التمايز بالذات أو الموضوع هل التمايز فيه يكونمن جهتين: أحدهما: بالذات والآخر: بالموضوع، أو التمايز فيه إن لوحظ مععلم الثاني يكون بالذات وإن لوحظ مع الثالث يكون بالموضوع؟ فإنّا مع عدمالأثر من هذين الاحتمالين في كلامه لا نرى ملاكاً فيه لإرادة أحدهما.
والحاصل: أنّ البحث عن التمايز من غير إعطاء الضابط والملاك له يرجعإلى عدم التمايز.
والنظر الأخير في المسألة نظر بعض المعاصرين من الفلاسفة، وهو: أنّ تمايزالعلوم يكون بتمايز الاُسلوب في البحث «مِتدُ» وأنّ التغيير في الاُسلوبيوجب التعدّد والتمايز في العلوم وإن كان الموضوع فيها واحداً، مثلاً: في مسألةمعرفة الإنسان، قد يبحث فيها من ناحية التعقّل والبرهان ويسمّى باسم«معرفة الإنسان من ناحية الفلسفة» أو علم النفس، وقد يبحث فيها منناحية الآيات والروايات، ويسمّى باسم «معرفة الإنسان من ناحية الدين»،وقد يبحث فيها من ناحية التجربة والآثار الباقية من المتقدّمين، ويسمّى باسم«معرفة الإنسان من ناحية التجربة» أو الجسم، وهذا الاُسلوب يوجب التمايزفي العلوم، مع أنّ الموضوع في الجميع عبارة عن الإنسان.
وهكذا في معرفة اللّه تعالى إذا لاحظنا هذا البحث في علم الفلسفة يثبت منطريق الاستدلال والبرهان، وإذا لاحظنا في علم العرفان يتحقّق عن طريقالكشف والمشاهدة، مع أنّ الموضوع في كليهما واحدٌ.
أقول: يحتمل أن يكون مرادهم من هذا الكلام بيان قاعدة كلّيّة في جميع