(صفحه 601)
واحداً؛ لما عرفت من حصول الموافقة بإتيان الطبيعة مرّة وسقوط الغرضمعها، وسقوط الأمر بسقوطه، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلاً.
وأمّا إذا لم يكن الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى ـ كما إذا أمربإتيان الماء ليشرب أو يتوضّأ فاُتي به ولم يشرب أو لم يتوضّأ فعلاً ـ فلا يبعدصحّة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا.
هذا، والحقّ أنّ هذا التفصيل ليس بتام؛ لأنّ الغرض الأقصى الذي له دخلفي الأمر عبارة عمّا يترتّب على فعل المكلّف، لا ما يترتّب على فعل المأموروالآمر معا، وهو جعل العبد الماء تحت اختيار المولى، فيكون فعل المكلّف علّةتامّة لتحقّق هذا الغرض، وإذا تحقّق الغرض يسقط الأمر، فكيف يمكن أنتتحقّق طبيعة المأمور به في ضمن الفرد الأوّل ومع ذلك لم يحصل الغرضالأقصى؟!
وبالنتيجة إذا تحقّق الفرد الأوّل يحصل الغرض، وإذا حصل الغرض فلا يبقىمحلاًّ للفرد الثاني؛ إذ لا أمر في البين بعد حصول الغرض، وأمّا فعل المولى منالشرب والوضوء وعدمهما فلا دخل له بالامتثال. هذه نتيجة البحث فيالأفراد الطوليّة، وبه يتمّ الكلام في المرّة والتكرار.
(صفحه602)
في الفور والتراخي
المبحث الثامن
في الفور والتراخي
اختلف العلماء في أنّ صيغة الأمر هل تدلّ على الفور أو التراخي أو لدلالة لها على الفور ولا على التراخي؟ لا يخفى أنّ مقصود القائل بالفور تقيّدمفاد الصيغة به وأنّ الفور واجب، ومقصود القائل بالتراخي تقيّده به وأنّالتراخي واجب، ومقصود القائل بعدم دلالتها عليهما عدم تقيّدها بهما وأنّهممعاً جائزان كما قال به صاحب الكفاية قدسسره (1)، ويجري ههنا جميع ما مرّ فيمبحث المرّة والتكرار، إلاّ ما أشكل به الإمام قدسسره من أنّ النزاع إن كان مربوطبالهيئة فيستحيل تعلّق البعث والتحريك مكرّرا بطبيعة واحدة تأسيسا بلفرق زمانا ومكانا؛ إذ لا مانع من تعلّقه بها متراخيا.
واختار عدّة من المحقّقين القول الثالث من الأقوال، واستدلّوا عليه بالتبادر،وأنّ ما ينسبق من الصيغة إلى الذهن عبارة عن طلب الطبيعة والماهيّة، بلدلالة على تقييدها بالفور أو التراخي، وقد مرّ أنّ قيد الإيجاد أيضا ليس جزءمدلول الصيغة، بل تدلّ اللابدّيّة العقليّة والعرفيّة بدخله فيه، خلافا لما نُسب
- (1) كفاية الاُصول 1: 122.
(صفحه 603)
إلى صاحب الفصول(1)، ويؤيّده أنّ الفور والتراخي من قيود الزمان، وكما أنّالمكان لا يتبادر منها كذلك الزمان لا ينسبق إلى الذهن.
والقائل بالفور بعد تسليم هذا الانسباق يقول: إنّ لنا طرقاً اُخر لاستفادةالفوريّة لا في جميع الأوامر، بل في الأوامر الشرعيّة فقط:
أحدها: ما حكيناه عن المحقّق الحائري قدسسره فيما مضى، ومن الآثار المترتّبةعليه الفوريّة في هذا المبحث، وهو أنّ العلل الشرعيّة كالعلل التكوينيّة فيجميع الأحكام والآثار والخصوصيّات، ومن الآثار المتحقّقة في العلل التكوينيّةفوريّة ترتّب المعلول على علّته وعدم انفكاك المعلول عنها خارجا، وهكذا فيالعلل الشرعيّة، فإذا تحقّقت العلّة الشرعيّة يتحقّق المعلول الشرعي، ومنالعلل الشرعيّة الأوامر، فبمجرد تحقّق الأوامر الشرعيّة لابدّ من تحقّق المعلولفورا بواسطة المكلّف.
وجوابه: تقدّم أنّه لا دليل على هذا التشبيه، سيّما التشبيه بجميع الآثار التيمنها تحقّق المعلول بتحقّق العلّة، فهو ادّعاء بلا دليل.
على أنّ لنا دليلاً على خلافه، وهو أنّه لا يقدر أحد ـ سوى الباري ـ علىسلب العلّيّة عن العلّة التكوينيّة، ولكن في الواجبات الشرعيّة نحن نرى كثيرمّا تحقّق الوجوب فعلاً، مع أنّ الواجب لا يتحقّق إلاّ بعد مدّة مديدة كما فيالواجب المعلّق مثل الحجّ؛ لأنّ وجوبه يتحقّق بمجرّد تحقّق الاستطاعة، ولذيجب على المكلّف الإتيان بالمقدّمات، وأمّا الواجب فلا يتحقّق إلاّ في الموسم،فانتقض هذا الدليل العقلي أو شبه العقلي بهذا المورد؛ بأنّ القول بالواجبالمعلّق يستلزم التفكيك بين العلّة والمعلول الشرعي.
(صفحه604)
وثانيها: أنّ عدّة من الآيات تدلّ على الفوريّة كقوله تعالى: «وَسَارِعُوآاْ إِلَىمَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ»(1) و «فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَ تِ»(2).
وتقريب الاستدلال: أنّ الآيتين تدلاّن على وجوب المسارعة والاستباقإلى سبب المغفرة والخير؛ إذ لا معنى للاستباق والمسارعة إلى نفس المغفرةوالخير بعد كونهما من أفعاله تعالى، ولا سبب لهما أعظم من الواجبات وامتثالأوامره تعالى، فيجب إتيانها وإطاعة الأوامر فورا.
وأجابوا عن هذا الاستدلال بأجوبة متعدّدة، بعضها مختصّ بآية واحدةولا يجري في الاُخرى، وبعضها الآخر مشترك بين الآيتين.
وأمّا الجواب الاختصاصي عن الآية الاُولى فهو: أنّ وجوب المسارعة فيالآية لا ينحصر بسبب المغفرة؛ إذ يقول اللّه تعالى في ذيل الآية: «وَجَنَّةٍعَرْضُهَا السَّمَـوَ تُ وَالاْءَرْضُ»، والظاهر أنّ المعطوف مغاير مع المعطوف عليه،وبعد أن لا يكون لنا تكليف بعنوان المسارعة إلى الجنّة في مقابل سائرالتكاليف الإلهيّة يستفاد أنّ الأمر في الآية إرشادي ولا يدلّ على الوجوب،ولا يعقل أن يكون الأمر بالنسبة إلى المعطوف عليه مولويّا وبالنسبة إلىالمعطوف إرشاديّا، فلا محالة يحمل الأمر بالسرعة في كلتا الجملتين علىالإرشادي.
وأمّا الجواب المشترك بين الآيتين فهو يجري في الآية الاُولى بأنّ هيئة«سارعوا» تكون من باب المفاعلة، ويتعلّق اللحاظ فيه بالطرفين، فأوجب اللّهتعالى بالآية المسارعة والمسابقة إلى فعل المأمور به بين المكلّفين، وهذا المعنى
(صفحه 605)
لا يجري في الواجبات العينيّة كالصلاة والصوم والحجّ وأمثال ذلك؛ إذ الواجبفيها إتيان كلّ واحد من المكلّفين وظيفته بلا دخل له بوظيفة سائر المكلّفين،ولا معنى للمسارعة لكلّ واحد منهم على الآخر بالنسبة إلى وظيفته، وحركةالمتديّنين سريعا في أوّل الوقت إلى المساجد تكون لإدراك فضيلة الجماعةوأوّل الوقت لا لمسابقة بعضهم البعض الآخر.
وإنّما يجري هذا الاستدلال في الواجبات الكفائيّة فقط، فإنّ غرض المولىفيها يتحقّق بعمل شخص واحد، فإن خالف الجميع يكون مستحقّا للعقوبة،وإن وافق أحد منهم يصدق عليه عنوان المطيع ويستحقّ المثوبة، ولا يصدقعلى سائر المكلّفين عنوان العاصي ولا عنوان المطيع ولا يستحقّون المثوبة ولالعقوبة، فيصدق ههنا عنوان المسارعة.
وهكذا في آية: «فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَ تِ» إلاّ أنّ السبق واللحوق يستفاد منمادّة السبق لا من هيئته، فالاستدلال بها يصحّ في الواجبات الكفائيّة فقط لالعينيّة، ولا معنى للسبق إلى الصلاة والصوم وأمثال ذلك.
ويمكن أن يقال: إنّ دلالة الآيتين على وجوب المسارعة والفوريّة فيالواجبات الكفائيّة كافية في الاستدلال، فإنّا نستفيد بضميمة عدم القولبالفصل وجوب الفوريّة في الواجبات العينيّة أيضا، ويثبت المدّعى.
وفيه: أوّلاً: أنّه لا يستفاد من ارتباط الآيتين بالواجبات الكفائيّة وجوبالمسارعة والاستباق، وأنّ في كلّ واحد من الواجبات الكفائيّة يتحقّقتكليفان: أحدهما: أصل الواجب، وثانيهما: المسارعة إليه، بل التكليف واحد،ولكنّ المسارعة والاستباق إليه راجح ومستحبّ.
وثانيا: أنّ الاستباق والمسارعة لا يكون بمعنى الفوريّة؛ لأنّ الاستباق