(صفحه596)
بتعلّقها بالأفراد مراده الأفراد مع الخصوصيّات الفرديّة، فالنزاع في أنّالعوارض المشخّصة داخلة في مطلوب المولى أم لا، مع قبول كلاهما أنّ الطلبيتعلّق بوجود الطبيعة.
ولكنّ البحث ههنا في أنّ المادّة تدلّ على نفس الماهيّة والهيئة تدلّ علىالبعث والتحريك، فلا شيء آخر يدلّ على الوجود.
ونُسب إلى صاحب الفصول(1) أنّه قال بأنّ الوجود جزء مفاد الهيئة ـ أيوضعت هيئة الأمر لطلب الوجود ـ فمجموع الهيئة والمادّة تدلّ على طلبوجود الماهيّة.
ولنا طريق آخر لعلّه يطابق الواقع، وهو كما مرّ أنّ البعث والتحريك علىقسمين: أحدهما: البعث والتحريك الحقيقي، والآخر: البعث والتحريكالاعتباري. والثاني في الحقيقة قائم مقام الأوّل، وإذا سمعنا تحقّق البعثوالتحريك الحقيقي فنفهم أنّه متوجّه إلى وجود مبعوث إليه، مع أنّ الألفاظ لتدلّ عليه، مثل: «زيد بعث عمرا إلى السوق»، واستفادة الوجود من هذمنوط بالدلالة الالتزاميّة لا الوضعيّة؛ إذ لا يمكن البعث والتحريك الحقيقي إلىغير جانب الوجود عقلاً.
وهذا المعنى يجري بعينه في البعث والتحريك الاعتباري أيضا؛ إذ كما أنّه لمعنى لاعتبار الملكيّة بدون المالك والمملوك في عالم الاعتبار كذلك لا معنىللبعث والتحريك الاعتباري بدون الوجود، خصوصا على القول بأصالةالوجود، واللابدّيّة العقليّة حاكمة بالملازمة بين المبعوث إليه والوجود، بلالعرف أيضا يستفيد من قول المولى لعبده: «سافر إلى طهران» أنّه بعثه إلى
(صفحه 597)
إيجاد السفر إلى «طهران»، فالعرف أيضا يساعد العقل في هذه المسألة، فمادّعاه المحقّق الخراساني قدسسره صحيح، ولكن من هذا الطريق لا من الطريق الذيذكره.
وهذا فَتْحُ باب لنا في أصل بحث دلالة الصيغة على المرّة أو التكراروعدمها؛ إذ لا شكّ في أنّ المقصود من الدلالة ههنا الدلالة اللفظيّة والوضعيّة،سواء كان النزاع مربوطا بالهيئة أو بالمادّة أو بالمجموع، وحينئذٍ يظهر ما هوالتحقيق في المسألة من أنّه لا ارتباط للمرّة والتكرار بالدلالة اللفظيّة، فإنّ لهمعنوان الوصفيّة للوجود، فإذا كان الموصوف خارجا عن الدلالة اللفظيّة ـ كممرّ آنفا ـ فكيف الحال بالنسبة إلى وصف الوحدة والتكرّر؟! بل الوصفخارج عنها بطريق أولى، ولا يعقل أن يكون الموصوف خارجا عن مفادالصيغة والوصف داخلاً فيه كما لا يخفى، فلا مجال للنزاع بأنّه هل الصيغة تدلّعلى المرّة أو التكرار أم لا.
ويمكن أن يقال: إنّه كما يستفاد أصل الوجود عن طريق العقل واللابدّيّةالعقليّة كذلك يستفاد قيد المرّة أو التكرار أيضا عن طريق اللابدّيّة العقليّة،وإن كان هذا خلاف الظاهر إلاّ أنّه يكفي للإيصال إلى المرّة أو التكرار.
ولكنّه مخدوش؛ بأنّ اللابدّيّة العقليّة تحتاج إلى الملاك كما تحقّق في المبعوثإليه من أنّه مربوط لا محالة بالوجود، وليست اللابدّيّة العقليّة أو العرفيّة زائدةحتّى تقتضي تحقّق القيد بالوحدة أو التكرار أيضا.
وأمّا إذا كان الوجود داخلاً في مفاد الهيئة من حيث الوضع ـ كما قال بهصاحب الفصول ـ ففي بادئ النظر وإن كان النزاع معقولاً بأنّ الوجود المتحقّقفي مفاد الهيئة هل هو عبارة عن الوجود المطلق أو الوجود المقيّد بالوحدة أو
(صفحه598)
التكرار، إلاّ أنّ تماميّة هذا الكلام متوقّف على تسليم جهتين: إحداهما: دخالةالوجود في مفاد الهيئة لغةً، أي وضع هيئة «افعل» للبعث والتحريك إلى وجودمبعوث إليه بحسب اللغة، مع أنّه ليس كذلك واقعا.
والثانية: عدم ورود الإشكال الذي أورده الإمام قدسسره من اجتماع اللحاظينالآلي والاستقلالي في آنٍ واحد في كلمة واحدة، مع أنّه أيضا وارد ولا يكونقابلاً للدفع.
وبالنتيجة لا دلالة لصيغة الأمر بمجموعها على المرّة ولا على التكرار.
ثمّ إنّ إتيان المكلّف في مقام الامتثال بوجود واحد من وجودات الطبيعةيكفي في تحقّق المأمور به قطعا، فإنّ مفاد صيغة الأمر عبارة عن البعثوالتحريك الاعتباري إلى إيجاد الطبيعة، وهو يتحقّق بإيجاد فرد واحد منها فيالخارج، إنّما الكلام في إيجاد المكلّف في مقام الامتثال أفرادا متعدّدة، سواء كانبصورة عرضيّة ـ كعتق عبيده بصيغة واحدة بعد حكم المولى بوجوب عتقالعبد ـ أو كان بصورة طوليّة كعتق عبيده تدريجا فردا بعد فرد، ولا بحث فيتحقّق الامتثال وعدمه بها؛ لأنّه إذا كان إيجاد فرد واحد منها موجبا لتحقّقالامتثال، فإيجاد الأفراد المتعدّدة بطريق أولى يكون كذلك، بل البحث في أنّإيجاد أفراد متعدّدة يعدّ امتثالاً واحدا أو يعدّ امتثالات متعدّدة، وثمرته تظهرفي استحقاق المثوبة من حيث وحدته وتعدّده.
أمّا الأفراد العرضيّة فتكون فيها أقوال ثلاثة: بأنّها تكون بمجموعها امتثالواحدا كما قال به اُستاذنا الأعظم السيّد الإمام قدسسره (1)، أو يكون كلّ منها فردمستقلاًّ للامتثال كما قال به اُستاذنا السيّد البروجردي قدسسره (2)، أو هو تابع لقصد
- (1) تهذيب الاُصول 1: 172 ـ 173.
- (2) المصدر السابق 1: 124.
(صفحه 599)
الممتثل كما نقل عن المحقّق الخراساني قدسسره في درسه، وإن يستفاد من عبارةالكفاية(1) القول الأوّل؛ إذ يقول: فيكون إيجاد الطبيعة في ضمن الأفرادكإيجادها في ضمن الواحد.
وقال المرحوم البروجردي قدسسره في مقام الاستدلال: إنّ الطبيعة متكثّرة بتكثّرالأفراد، ولا يكون فردان أو أفراد منها موجودة بوجود واحد؛ لأنّ المجموعليس له وجود غير وجود الأفراد، فكلّ فرد محقّق للطبيعة، ولمّا كان المطلوبهو الطبيعة بلا قيد بالمرّة أو التكرار فحينئذٍ إذا أتى المكلّف بأفراد متعدّدة فقدأوجد المطلوب في ضمن كلّ فرد مستقلاًّ، فيكون كلّ فرد امتثالاً برأسه كما هوموجود برأسه وبنفسه، نظير ذلك الواجب الكفائي حيث إنّ الأمر فيه متعلّقبنفس الطبيعة، ويكون جميع المكلّفين مأمورين بإتيانها، فمع إتيان واحد منهميسقط الوجوب عن الباقي. وأمّا لو أتى به عدّة منهم دفعة فيعدّ كلّ واحدممتثلاً، ويحسب الكلّ امتثالاً مستقلاًّ لا أن يكون فعل الجميع امتثالاً واحدا.هذا تمام كلامه على مانقل عنه الإمام .
وقال الإمام قدسسره (2) في مقام جوابه بما حاصله: إنّ الملاك في وحدة الامتثالوتعدّده عبارة عن وحدة التكليف وتعدّده، فإن كان التكليف واحدفالامتثال أيضا واحد، وإن كان التكليف متعدّدا فالامتثال أيضا متعدّد، إلأنّ لتعدّد التكليف طرقاً متعدّدة، فقد يكون بنحو الصلاة والصوم... وتعدّدالتكليف فيها بتعدّد عناوين المكلّف به، وقد يكون تعدّد التكليف بنحو العامّالاستغراقي، مثل: «أكرم كلّ عالم»، والحكم فيه ينحلّ ويتعدّد بتعدّد مصاديق
- (1) كفاية الاُصول 1: 121.
- (2) مناهج الوصول إلى علم الاُصول 1: 289 ـ 291.
(صفحه600)
العالم، فيكون إكرام كلّ فرد واجبا برأسه، ولذا يمكن الامتثال والموافقةبالنسبة إلى بعض الأفراد والمخالفة بالنسبة إلى البعض الآخر. فإذا الامتثالفرع الطلب، كما أنّ العقوبة فرع ترك المطلوب، فلا يمكن الامتثالات مع وحدةالطلب ولا استحقاق عقوبة واحدة مع كثرته.
أضف إلى ذلك أنّ قياس ما نحن فيه على الواجب الكفائي قياس معالفارق؛ لأنّ البعث في الواجب الكفائي يتوجّه إلى عامّة المكلّفين بحيث يصيركلّ مكلّف مخاطبا بالحكم، فهناك طلبات كثيرة وامتثالات عديدة، لكن لوأتى به مكلّف واحد منهم يسقط التكليف عن الباقي؛ لحصول الغرض وارتفاعالموضوع، وإن تركوها رأسا لعوقبوا جميعا، وإن أتاها الجميع دفعة فقد امتثلوكافّةً؛ لكون كلّ فرد منهم محكوما بحكمه ومخاطبا ببعثه المختصّ، بخلاف المقام.
وأضعف من ذلك ما نقل عن درس المحقّق الخراساني قدسسره ؛ إذ لا دخل للقصدوعدمه بدون العمل لا في أصل الامتثال ولا في تعدّده ووحدته.
فالحقّ أنّ تعدّد الامتثال ووحدته يدور مدار تعدّد التكليف ووحدته كمقال به الإمام قدسسره .
هذا في الأفراد العرضيّة، وأمّا البحث في الأفراد الطولية فقد يكون غرضالمكلّف من الإتيان بالفرد الثاني تبديل الامتثال، وقد يكون غرضه منه تكميلالامتثال ليعدّ الإتيانان امتثالاً واحدا.
وكان لصاحب الكفاية قدسسره (1) في هذه الصورة تفصيل، وهو أنّه إذا كان امتثالالأمر علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى بحيث يحصل بمجرّد الامتثال فلا يبقىمعه مجال لإتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثال
- (1) كفاية الاُصول 1: 121 ـ 122.