(صفحه 607)
إلى مغفرة موصوفة بأنّها من ربّكم، ومعلوم أنّ النكرة الموصوفة ليست منالألفاظ الدالّة على العموم.
وإن فرضنا كون السبب مقدّرا وكان معناها: «واسرعوا إلى سبب المغفرة»فيكون سبب المغفرة نكرة مضافة، وهي أيضا لا تكون من الألفاظ الدالّة علىالعموم، وإن كانت هي أقرب إلى العموم.
ولو فرضنا دلالة النكرة مضافة إلى العموم بخلاف النكرة الموصوفة، فهلتعامل مع مثل الآية معاملة النكرة المضافة، أو تعامل معاملة النكرةالموصوفة؟ لعلّ الملاك فيه ما هو ظاهر اللفظ لا ما هو المقدّر.
ويؤيّد عدم دلالة الآية على العموم اختلاف المفسّرين في تفسير الآية، بأنّالمقصود من المغفرة الصلوات اليوميّة عند بعض، والدخول في الصفّ الأوّلمن الجماعة عند بعض، والسرعة في الاقتداء ـ أي في الصلوات ـ عند بعض،والتوبة عند بعض، والجهاد في سبيل اللّه عند بعض، والإخلاص في العمل عندبعض، ولم يقل أحد منهم بدلالتها على العموم، وأنّها لا تنحصر بالمصاديق،فإن لم تدلّ على العموم ينهدم أساس الاستدلال.
ومع قطع النظر عن الإشكالات وفرض دلالة كلتا الآيتين على العموم يردعليه:
أوّلاً: أنّه لا شكّ في كون المستحبّات كالواجبات خيرا، وهكذا في سببيّتهللمغفرة، بل تكون سببيّتها للمغفرة أولى من بعض الواجبات، فلا يمكنخروج المستحبّات بحسب الدلالة اللفظيّة عن الآيتين، فكيف يمكن الالتزامبوجوب الاستباق إليها مع أنّها من العناوين المستحبّة؟!
وثانيا: أنّ الفوريّة والاستباق في أكثر الواجبات أيضا ليس بواجب
(صفحه608)
ـ كالصلاة والزكاة مثلاً ـ وأمّا الواجبات المضيّقة ـ كالصوم ـ فلا معنى للفوريّةفيها، فيبقى تحت الآيتين عدّة من الواجبات كالحجّ والجهاد في سبيل اللّهخصوصا إن كان دفاعيّا، وعلى هذا إن حملنا الآيتين مع عمومهما علىالوجوب يلزم تخصيص الأكثر، وهو مستهجن، مع أنّ لحن الآيتين وسياقهمآبٍ عن التخصيص، ولا يكون قابلاً له، فلا محالة يتعيّن القول بعدم دلالةالآيتين على الوجوب؛ لدفع هذه المحذورات، وإن دلّتا من حيث الهيئة علىالوجوب.
وأشكل على الاستدلال بآية «فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَ تِ» بأنّه سلّمنا أنّ هيئةالأمر وضعت للبعث والتحريك الوجوبي، إلاّ أنّ ههنا قرينة عقليّة تمنع منحملها عليه؛ إذ الاستباق والتقدّم بالنسبة إلى الخيرات لا بالنسبة إلى المكلّفين،فكأنّه يقول: «قدّموا بعض الخيرات على بعض»، والملاك في التقديم عبارة عننفس الاتّصاف بالخيريّة ونفس انطباق عنوان الخير، ولم تلاحظ في الآيةالمراتب الشديدة والضعيفة، وليس ملاك الاستباق كون الخير في المرتبة القويّة،بل الملاك نفس الاشتراك في الخيريّة.
وأمّا في مقام العمل فلا محالة يتحقّق التقدّم والتأخّر؛ إذ المفروض عدمإمكان الجمع بين جميع الخيرات في آنٍ واحد، وإذا كان الأمر كذلك فالسؤالالمطروح: ما مزيّة المتقدّم على المتأخّر وما نقص المتأخّر بالنسبة إلى المتقدّم،مع أنّهما مشتركان في أصل الملاك، وصدق عنوان الخيريّة عليهما سواء؟ وعلىهذا إن حملنا الهيئة في الآية على وجوب الاستباق يلزم من وجوب الاستباقإلى الخير الأوّل عدم وجوب الاستباق إلى الخير الثاني، فيلزم من وجودهعدمه، وهو محال، وهذه القرينة العقليّة توجب رفع اليد عن مفاد الهيئة.
(صفحه 609)
ولا يستفاد من كلام المستشكل بعد عدم الحمل على الوجوب معنى آخر،ولعلّ مراده الحمل على الاستحباب، مع أنّ الإشكال يجري بعينه في هذالفرض أيضا؛ إذ الملاك في استحباب الاستباق هو الاتّصاف بالعناوينالخيريّة، فبعد اشتراك المتأخّر والمتقدّم في أصل الملاك يلزم من استحبابالاستباق إلى الخير المتقدّم عدم استحباب الاستباق إلى الخير المتأخّر.
ولعلّ مراده الحمل على الإرشاد؛ بأنّ العقل يحكم بحسن الاستباق إلىالخيرات، والآية الشريفة تدلّ على هذا المعنى إرشادا، وهذا الحمل أولى منالحمل على الاستحباب.
وهذا البيان مخدوش: أوّلاً: بأنّ ما يتّصف بالسبق عبارة عن المكلّفين لالخيرات، والظاهر من الآية أنّه يجب على كلّ مكلّف أن يستبق الخير منمكلّف آخر، لا أنّه يجب عليه أن يستبق إلى بعض الخيرات بالنسبة إلىبعضها الآخر، فالمسابقة بين المكلّفين، كما مرّ ذكره في الواجب الكفائي.
وثانيا: أنّه لو سلّمنا وفرضنا أنّ الاستباق في الآية تكون بين الخيرات فليثبت المدّعى أيضا، فإنّ مجرّد عدم إمكان الجمع لا يوجب رفع اليد عنالوجوب والالتزام بالحمل على الإرشاد، بل تصل النوبة إلى جريان قواعدباب التزاحم كمسألة إنقاذ الغريقين والصلاة والإزالة؛ لأنّ القاعدة تقتضي فيمثل هذه الموارد تقدّم الأهمّ أو محتمل الأهمّية، وفي صورة عدمهما كان المكلّفمخيّرا، فيكون مفاد الهيئة في الآية من مصاديق باب المتزاحمين، ويبقى علىظاهره بدون الحمل والتوجيه.
وثالثا: أنّ الأمر الإرشادي تابع لما حكم به العقل من اللزوم أو الحسنقبل الأمر، وفي مورد الآية صحيح أنّ العقل يحكم بالحسن، إلاّ أنّه يحكم
(صفحه610)
بحسن الاستباق إلى الخير في مقابل تركه، لا أنّه يحكم بحسن الاستباق إلىبعض الخيرات بالنسبة إلى بعضها الآخر، كما أنّ العقل في مورد آية: «أَطِيعُواْاللَّهَ» يحكم بلزوم إطاعة اللّه تعالى قبل الأمر، فالأمر في الآية أيضا يرشد إلىهذا المعنى.
على أنّه يجري إشكال الاستحالة في هذا الفرض أيضا؛ إذ العقل يحكمبحسن الاستباق إلى الخيرات، والملاك عبارة عن صدق عنوان الخير بلا دخلللمراتب فيه، فلا محالة يتحقّق في مقام العمل التقدّم بالنسبة إلى البعضوالتأخّر إلى بعض آخر، فما الفرق بين الخير المتقدّم والمتأخّر؟ فيلزم منوجوده عدمه، وهو محال، فلا تدلّ الآية على الإرشاد، كما أنّه لا تدلّ علىالوجوب والاستحباب، وهذا أمر غير معقول.
فتحقّق ممّا ذكرنا أنّه لا دليل لنا من اللغة على دلالة مطلق الأوامر علىالفوريّة ولا من الآية والرواية؛ لدلالة خصوص الأوامر الشرعيّة عليها، ولذبطل القول بالفور بمعنى التقيّد به، كما بطل القول بالتراخي بمعنى التقيّد به.
استمراريّة الفوريّة وعدمه
وذكروا في ذيل بحث الفور والتراخي مطلبا بعنوان التتمّة والتكملة، وهوأنّه على القول بالفور بنحو التقيّد في مطلق الأوامر أو في خصوص الأوامرالشرعيّة، فهل مقتضى الأمر الإتيان بالمأمور به فورا ففورا بحيث لو عصىلوجب عليه الإتيان به فورا في الزمان الثاني أو لا؟ وجهان مبنيّان على أنّمفاد الصيغة على هذا القول هو وحدة المطلوب أو تعدّده.
توضيح ذلك: أنّ القيد والمقيّد قد يكون بنحو وحدة المطلوب بحيث إن
(صفحه 611)
انتفى القيد ينتفي المقيّد رأسا، كما إذا قال المولى: اعتق رقبة مؤمنة ـ مثلاً وأحرزنا من الخارج وحدة مطلوبه وغرضه، وقد يكون بنحو تعدّد المطلوبكما في الصلوات اليوميّة المقيّدة بالأوقات الخمسة، فإنّه كان للمولى فيهمطلوبان: أحدهما: أصل صلاة الظهر ـ مثلاً ـ والآخر: إيقاعه في وقت خاصّ،فإن فات القيد يبقى المقيّد بحاله، فأمر ما نحن فيه دائر بين وحدة المطلوببمعنى كون الفوريّة مقوّمة لأصل المصلحة؛ بحيث تفوت بفوات الفوريّة، وتعدّدالمطلوب بمعنى أن يكون هناك مصلحة قائمة بذات الفعل ومصلحة اُخرىقائمة بإيقاعه فورا.
ومن المعلوم أنّ نهاية ما يستفاد من الآيتين عبارة عن نفس التقيّد،ودلالتهما على مطلوبيّة الطبيعة فورا، لا كيفيّة التقيّد ونوعه، فتصل النوبة إلىالاُصول اللفظيّة والعمليّة، ويمكن أن يقال في مقام التمسّك بالأصل اللفظي: إنّمقتضى الإطلاق عدم الوجوب في الزمان الثاني؛ لأنّه كما أنّ أصل التكليفيحتاج إلى البيان والتعرّض كذلك تحقّقه في الزمان الثاني يحتاج إلى البيانوالتعرّض، وبعد تماميّة مقدّمات الحكمة وعدم تعرّضه له يستفاد عدم وجوبهفي الزمان الثاني.
وإذا لم يكن إطلاق في البين ووصلت النوبة إلى الاُصول العمليّة فكان ههنطريق لجريان الاستصحاب بنحو الكلّي من القسم الثاني؛ بأن نقول: بعدتوجّه التكليف من المولى إلينا وحصول اشتغال ذمّتنا ودوران الأمر بينوحدة المطلوب ـ بحيث إن انتفى القيد ينتفي أصل التكليف ـ وتعدّد المطلوبـ بحيث إن خالف القيد يبقى أصل التكليف ـ فنشكّ في بقاء التكليف وعدمه،فلا مانع من استصحاب أصل التكليف، كما إذا نذر أحد الحجّ مقيّدا بهذه