وعلى القول الأوّل تكون كلمة «يقتضي» بمعنى السببيّة والتأثير، وعلىالقول الثاني تكون بمعنى الدلالة، وجعل النزاع في مدلول الأمر ـ أي العنوانالثاني ـ وإن كان مناسبا لمباحث الألفاظ، وهو الأقرب إلى الذهن في بادئالنظر وأولى من العنوان الأوّل؛ إذ لا دخل للإتيان والعمل الخارجي باللفظ،إلاّ أنّه بعد التحقيق الدقيق والكامل لا يكون قابلاً للقبول، فإنّ كلمة«يقتضي» تكون على هذا التقدير بمعنى الدلالة كما قلنا، والدلالات منحصرة
بالمطابقة والتضمّن والالتزام، وكلّ ذلك ممنوع ههنا، أمّا المطابقة فلأنّ معناهأن يكون مفاد هيئة «افعل» بحسب الوضع واللغة أنّه إذا اُتي بالمأمور به علىوجهه يقتضي الإجزاء.
وجوابه: أوّلاً: أنّ هذا المعنى لا يتبادر إلى الذهن بعد سماع هيئة «افعل»فمثلاً: إذا سمعنا جملة «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» لا ينسبق إلى الذهن أنّه إذا أتيتمبالصلاة مع الخصوصيّات المعتبرة فيها، فلا تجب الإعادة في الوقت ولا القضاءفي خارج الوقت.
وثانيا: أنّ المعنى المطابقي عبارة عن تمام الموضوع، مع أنّا نعلم أنّ مدلولهيئة الأمر هو الطلب أو البعث والتحريك الوجوبي، وإن كان لهذه الإضافاتدخلاً فيه فلابدّ من كونها بصورة الأجزاء أو القيود؛ إذ لا يمكن أن يكونالوجوب خارجا عن الموضوع له.
وأمّا ممنوعيّة الدلالة التضمّنية فهي بدليل الأوّل؛ إذ المتبادر من الهيئةالبعث والتحريك الوجوبي فقط، ولذا نفي دلالة التضمّن كالمطابقة لا يحتاج إلىالاستدلال ولم يلتزم بهما أحد.
وأمّا الدلالة الالتزاميّة فإن كانت جزء الدلالة اللفظيّة فيشترط فيهالخصوصيّتان على قول، وخصوصيّة واحدة على قول آخر، والاُولى أنيكون اللزوم فيها بنحو البيّن، والثانية أن يكون البيّن بمعنى الأخصّ، ومعناهأنّ مجرّد تصوّر الملزوم كاف في تحقّق الانتقال إلى اللازم كالزوجيّة بالنسبة إلىالأربعة وسائر لوازم الماهيّة، وقال بعض: إنّه يكفي في تحقّق الدلالة اللفظيّة أنيكون البيّن بالمعنى الأعمّ، ومعناه أنّ بعد تصوّر الملزوم واللازم معا لا تحتاجالملازمة والارتباط بينهما إلى الدليل، فيتحقّق بتصوّر الطرفين القطع بالملازمة،
(صفحه616)
ولا شكّ في أنّ الأوّل من الدلالة اللفظيّة، ولكنّ الثاني مختلف فيه.
وبعد هذا التمهيد يتّضح تقريب الاستدلال بالدلالة الالتزاميّة، فيقال: إنّالأمر يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على وجود مصلحة ملزمة في المأمور به، وهيأوجب في صدور الأمر عن المولى، وإذا تحقّق المأمور به في الخارج تتحقّقالمصلحة الملزمة أيضا، فلا يبقى محلّ للإعادة والقضاء في الوقت أو في خارجالوقت.
ولكنّه لا يخفى أنّ صحّة هذا الكلام مبتنية على أمرين: أحدهما: أن يدلّالأمر بالدلالة الالتزاميّة على تحقّق المصلحة في المأمور به.
وثانيهما: أن يكون البيّن بالمعنى الأعمّ أيضا من الدلالة اللفظيّة. وكلاهممخدوش:
أوّلاً: بأنّ عدّة من العلماء ينكرون أساس المصلحة والمفسدة كالأشاعرة،فللمولى عندهم أن ينهى عن شيء من دون أن يكون هذا الشيء مشتملعلى المفسدة، أو تكون في النهي مصلحة، وهكذا في المأمور به.
وثانيا: أنّ على القول بوجود المصلحة والمفسدة في المأمور به والمنهي عنه،وأنّ الأمر يدلّ على وجود مصلحة في البين، ولكنّه مردّد بين أن يكون فيالمأمور به وبين أن يكون في نفس الأوامر، مثل: الأوامر الاختباريّةوالاعتذاريّة، كما أنّ في النواهي تكون مردّدة بين تحقّقها في المنهي عنه وبينتحقّق المصلحة في نفس النهي، فكيف يوجب تصوّر الأمر الانتقال إلىالمصلحة الملزمة المتحقّقة في المأمور به؟! ولو فرضنا أنّ الأمر يدلّ على وجودمصلحة ملزمة في المأمور به وأنّ اللزوم بين الأمر والمصلحة يكون بنحو البينبالمعنى الأعمّ فلا يتمّ المطلوب أيضا؛ لعدم إحراز كونه من الدلالة اللفظيّة،