(صفحه 625)
لا يوجب الفرق في المعنى، كقولنا: الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضيالكفاية أو لا؟
ولكنّ الجمود على ظاهر الكلمات يوجب توهّم تحقّق اصطلاح خاصّ فيما نحن فيه للإجزاء، فإنّ بعض العلماء عبّر عن الإجزاء بإسقاط التعبّد بهثانيا، وبعضهم عبّر عنه بإسقاط القضاء.
ولا يخفى عليك: أوّلاً: أنّ التعبّد به ثانيا أعمّ من الأداء في الوقت والقضاء فيخارج الوقت، وأمّا كلمة «القضاء» في التعبير الثاني فيحتمل أن تكون فيمقابل الأداء في الوقت، وهذا المعنى مستلزم لخروج بحث الإعادة في الوقتعن مبحث الإجزاء، مع أنّه داخل قطعا، ويحتمل أن تكون بمعنى الفعلالثانوي، فيدخل هذا البحث أيضا فيه.
وثانيا: أنّه مرّ ذكرنا أنّ للمسألة مقامين من البحث، وهذان التعبيرانيجريان فيهما قطعا، فنقول: إتيان المأمور به بالأمر الواقعي ـ كالصلاة معالوضوء ـ يكفي، فيسقط به التعبّد به ثانيا، كما أنّ إتيان المأمور به بالأمرالاضطراري والظاهري ـ كالصلاة مع التيمّم ـ أو مع الوضوء الاستصحابي،يكفيان، فيسقط التعبّد بهما ثانيا. هذا بالنسبة إلى المقام الأوّل.
وأمّا بالنسبة إلى المقام الثاني فنقول: إتيان المأمور به بالأمر الاضطراريـ كالصلاة مع الوضوء ـ يكفي، فيسقط التعبّد به ثانيا، إلاّ أنّه لابدّ من القولبنوع من الاستخدام في ضمير «به» إذ المراد منه في مرحلة التكرار إتيانالصلاة مع الوضوء، وهكذا في إتيان المأمور به بالأمر الظاهري.
ولصاحب الكفاية قدسسره (1) تفسير عن التعريفين بما لا يرضي صاحبه، ول
- (1) كفاية الاُصول 1: 126.
(صفحه626)
يكون قابلاً للالتزام، فإنّه قال: إنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي يكفي،فيسقط به التعبّد به ثانيا، وبالأمر الاضطراري أو الظاهري الجعلي، فيسقط بهالقضاء، فاختصّ التعريف الأوّل بالمقام الأوّل، والثاني بالمقام الثاني، مع أنّ كلالتعريفين يجري في مطلق الأوامر لا في أمر دون أمر.
ولعلّ ما أوجب تخصيصه التعريف الأوّل بالأمر الواقعي الأوّلي هو لزومالاستخدام المذكور، فالتزم بذلك فرارا عن الاستخدام.
ثمّ ذكر صاحب الكفاية قدسسره مقدّمة مشتملة على دفع توهّمين: أحدهما: أنّهذا النزاع عين النزاع في مسألة المرّة والتكرار، فلا وجه لإفراد كلّ منهمبالبحث، وتقريبه: أنّ الإجزاء مساوق للمرّة؛ إذ لو لم يدلّ الأمر على المرّة لميكن الإتيان بالمأمور به مجزيا، كما أنّ عدم الإجزاء مساوق للتكرار، ولا أقلّمن تفرّع هذه المسألة على مسألة المرّة والتكرار.
وثانيهما: أنّ النزاع في هذه المسألة عين النزاع في مسألة تبعيّة القضاءللأداء؛ بأنّ دلالة الأمر على وجوب القضاء في خارج الوقت مساوقة لعدمالإجزاء؛ إذ مع فرض الإجزاء وسقوط الأمر لا وجه لوجوب قضائه، ودلالتهعلى عدم وجوب القضاء مساوقة للإجزاء.
وجواب التوهّم الأوّل بنحو الإجمال: أنّه تحقّق في مسألة المرّة والتكرارثلاثة أقوال: الأوّل: الدلالة على المرّة بنحو القيديّة، الثاني: الدلالة على التكراركذلك، الثالث: عدم الدلالة ونفي كليهما، كما مرّ تفصيلها، فإن كان هذا النزاععين ذاك النزاع أو كان متفرّعا عليه فلا محالة يتحقّق في هذه المسألة أيضثلاثة أقوال: الأوّل: إتيان المأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء، الثاني:... ليقتضي الإجزاء، الثالث:... لا يقتضي الإجزاء ولا يقتضي عدم الإجزاء، مع أنّه
(صفحه 627)
ليس كذلك.
وأمّا الجواب عنه بنحو التفصيل والتحقيق فهو: أنّ النزاع في مسألة المرّةوالتكرار صغروي؛ لرجوعه إلى تعيين المأمور به، وفي مسألة الإجزاء كبروي؛لرجوعه إلى أنّ الإتيان به مجزٍ أو لا.
توضيح ذلك: أنّ النزاع في مسألة المرّة والتكرار وقع في تعيين المأمور به،وأنّ التقيّد بالمرّة داخل فيه، أو التقيّد بالتكرار داخل فيه، ومن البديهي أنّمراد القائل بالتكرار هو المسمّى بالتكرار وصدق عنوانه، وهو يتحقّق بإتيانالمأمور به مرّتين، فالقائل بالتكرار يقول: إنّ المأمور به ليس عبارة عن نفسالعمل، بل هو عبارة عن العمل المقيّد بالتكرار، والقائل بالقول الثالث يقول:إنّ المأمور به عبارة عن نفس الطبيعة.
فبعد الفراغ من تشخيص قيود المأمور به وتعيين خصوصيّاته بدلالةالصيغة يقع النزاع في بحث الإجزاء؛ بأنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه يعنيبجميع القيود والخصوصيّات من قيد المرّة أو التكرار أو عدمهما مجزٍ أو لا،وكلّ واحد من القائلين بالأقوال الثلاثة المذكورة في المسألة السابقة كانمختارا في اختيار كلّ واحد من القولين ـ أي الإجزاء وعدمه ـ في هذه المسألة،وهذا دليل على استقلال المسألتين.
وقال صاحب الكفاية قدسسره (1) في مقام الجواب عن التوهّم الثاني بأنّ البحثفي مسألة تبعيّة القضاء للأداء في دلالة الصيغة على التبعيّة وعدمها، فالبحثفيها لفظي، بخلاف هذه المسألة فإنّه كما عرفت في أنّ الإتيان بالمأمور به يجزيعقلاً عن إتيانه ثانيا أداءً أو قضاءً أو لا يجزي، فالبحث فيها عقلي، فلا عُلقة
- (1) كفاية الاُصول 1: 126.
(صفحه628)
بين المسألتين أصلاً.
ولكنّه ليس بصحيح فإنّا نبحث في ما نحن فيه كما مرّ في المقامين، فالبحثفي المقام الأوّل بحث عقلي، وأمّا البحث في المقام الثاني فهو بحث لفظي، وقلنا:إنّ الأساس والعمدة في هذه المسألة هو البحث اللفظي.
والحقّ أنّ بين المسألتين فرقا ماهويّا، فإنّ موضوع البحث في مسألةالإجزاء هو الإتيان بالمأمور به، ومعلوم أنّه أمر وجودي، وموضوع البحث فيمسألة تبعيّة القضاء للأداء هو ترك المأمور به في وقته، وهو أمر عدمي،فيكون التفاوت بينهما تفاوت الوجود والعدم، فإنّه إذا لم يأت بالمأمور به علىوجهه ـ أي مع جميع الخصوصيّات، ومنها الإتيان في الوقت ـ فتصل بعد ذلكالنوبة إلى مسألة تبعيّة القضاء للأداء وعدمها.
وأضاف اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1) مقدّمة تهدينا إلى اختيار ما هو الحقّ فيأصل المسألة، وهي أنّ الظاهر من كلمات المتأخّرين كما يستفاد من الكفاية أنّالأوامر على ثلاثة أقسام: الأوّل: الأوامر الواقعيّة الاختياريّة، الثاني: الأوامرالاضطراريّة، الثالث: الأوامر الظاهريّة، مع أنّ التحقيق بعد ملاحظة أدلّةالأحكام من الآيات والروايات أنّه ليس هنا إلاّ أمر واحد تعلّق بطبيعةالمأمور به يشترك فيه جميع المكلّفين، والاختلاف في الخصوصيّات والحالات؛إذ الشارع أمر بإتيانها بكيفيّة في حال الاختيار، وبكيفيّة اُخرى في حالالاضطرار أو الشكّ، مع أنّ المأمور به في الجميع طبيعة واحدة.
وعلى هذا يكون قوله تعالى: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» ـ مثلاً ـ خطابا عامّا إلىكلّ مكلّف متضمّنا للأمر بإقامة الصلاة، والاختلاف في فاقد الماء وواجده وفي
- (1) تهذيب الاُصول 1: 180 ـ 181.
(صفحه 629)
العلم والشكّ إنّما هو في الخصوصيّات الدخيلة في متعلّق الأمر وطبيعة الصلاة،كما هو ظاهر قوله تعالى: «يَـآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوآاْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُواْوُجُوهَكُمْ» إلى أن قال سبحانه: «فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا»(1)،فإنّ ظاهرها أنّ الصلاة التي سبق ذكرها وشرطيّتها بالطهارة المائيّة يؤتى بهعند فقد الماء متيمّما، وأنّها في هذه الحالة عين ما يكون في حالة وجدان الماءمن حيث الأمر والمأمور به.
ويستفاد هذا المعنى أيضا من ضمّ رواية: «التراب أحد الطهورين»(2) إلىرواية: «لا صلاة إلاّ بطهور»(3)، فلا يستفاد من الأدلّة أن يكون لفاقد الماء أمرمستقلّ في قبال الأمر المتعلّق بالطبيعة، وهكذا في سائر الحالات من عدمالتمكّن من القيام والعجز عن الركوع والسجود وأمثال ذلك، فلا يوجباختلاف الحالات المذكورة التعدّدَ في الأمر، بل الأمر واحد متعلّق بطبيعةالصلاة.
وهكذا في أدلّة الأوامر الظاهريّة، كصحيحة زرارة، قال عليهالسلام : «لأنّك كنتعلى يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّأبدا»(4).
فتدلّ جميع هذه الأدلّة على توسعة الطهارة من حيث شمولها الطهارةالترابيّة والاستصحابيّة ونحو ذلك، ولا تدلّ على تعدّد الأوامر بتعدّد الحالات،وليس لنا خطاب مستقلّ وبعنوان «أيّها الواجدون للماء يجب عليكم الصلاة
- (2) الوسائل 3: 381، الباب 21 من أبواب التيمّم، الحديث 1.
- (3) الوسائل 1: 365، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
- (4) الوسائل 3: 466، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 1.