(صفحه656)
تدلّ عليه البراءة العقليّة هو نفي المؤاخذة فقط، وهو لا يستلزم الإجزاء قطعا.
إنّما المهمّ البراءة الشرعيّة، ومستندها حديث الرفع مثل قوله صلىاللهعليهوآله : «رُفع عناُمّتي تسع... ومنها ما لا يعلمون»(1)، والموصول فيه عامّ يشمل جميع ما يكونرفعه ووضعه بيد الشارع من الأحكام التكليفيّة ـ كالوجوب والحرمة والوضعيّة، كالحجّيّة والجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة وأمثال ذلك، فإن شككنا فيجزئيّة السورة ـ مثلاً ـ فلا شكّ في عدم وصول النوبة إلى البراءة الشرعيّة إلبعد الفحص واليأس عن الدليل اللفظي في جانب النفي أو الإثبات حتّى فيصورة الإطلاق، والقول بأنّ مثل «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» يكون في مقام بيان أصلالمشروعيّة لا في مقام بيان كيفيّة الصلاة، ولذا لا يمكن التمسّك بإطلاقه لنفيالجزئيّة؛ لفقدانه شرائط التمسّك به. والحكم ههنا كما في قاعدة الطهارة عبارةعن الإجزاء، ولكنّه يحتاج إلى الدقّة والتأمّل.
بيان ذلك: أنّ مفاد حديث الرفع ليس نفي المؤاخذة فقط، بل مفاده عبارةعن نفي جزئيّة السورة المشكوك في جزئيّتها، ولا يكون مفاده نفي الجزئيّة لغيرالعالم بالجزئيّة، فإنّه يوجب التقدّم والتأخّر الدوري المحال، ولا أقلّ منالتصويب الباطل؛ إذ القول باختصاص الحكم الواقعي بالعالم بالواقع لللجاهل تصويب مجمع على بطلانه.
على أنّ الروايات الكثيرة تدلّ على أنّ للّه تعالى في كلّ واقعة حكما يشتركفيه الجاهل والعالم، ومعلوم أنّ الظاهر من الحكم أعمّ من الحكم التكليفيوالوضعي، فكيف رفعت جزئيّة المشكوكة بعد اشتراكهما في أصل الجزئيّة؟!
ولابدّ لنا من حلّ المسألة بأنّ المستفاد من ضمّ «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» إلى م
- (1) الوسائل 15: 369، الباب 65 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الحديث 1.
(صفحه 657)
يدلّ على جزئيّة السورة بحسب الواقع أنّ طريق امتثال هذا الأمر في الخارجمنحصر بإتيان الصلاة مع السورة، ولكنّ المجتهد بعد الفحص وعدم الظفر علىالدليل المذكور التمسّك بحديث الرفع، فمفاده لا محالة يكون في هذه الحالة عبارةمن تجويز الشارع إتيان الصلاة للجاهل بالجزئيّة بدون السورة امتنانا، وإذأجاز له بإتيانها بهذه الكيفيّة فهو لا يكون قابلاً للجمع مع لزوم الإعادة أوالقضاء بعد علمه بحقيقة الحال، فالحكم في البراءة الشرعيّة أيضا عبارة عنالإجزاء.
وأمّا أصالة الاشتغال فلا شكّ في خروجها عن موضوع البحث، فإنّا نبحثفيما تحقّق عبادة مع فقدان بعض الأجزاء أو الشرائط، ومورد جريان هذالأصل عبارة عمّا اُتي بمحتمل الشرطيّة والجزئيّة وترك ما يحتمل المانعيّة، ولذلا يصحّ التعبير بأنّ أصالة الاشتغال مقتضية للإجزاء، فإنّ بعد إتيان الصلاةـ مثلاً ـ مع السورة وكشف عدم جزئيّتها وكونها بعنوان المستحبّ، أو شيءغير قادح في صحّة الصلاة، فلا نقص فيها حتّى نبحث ونعبّر بالإجزاء.
وأمّا أصالة التخيير التي تجري في دوران الأمر بين المحذورين بعنوان أصلعقلي فموردها قد يكون عبارة عن عمل يدور أمره بين الوجوب والحرمة فلمعنى للإجزاء ههنا؛ إذ المكلّف إمّا يأتي به أو يتركه، وعلى التقديرين إمّيكشف عن الخلاف وإمّا لا يكشف، وإن أتى به ثمّ انكشف أنّه كان محرّما فليعقل التعبير بالإجزاء، وهكذا إن تركه ثمّ انكشف أنّه كان واجبا بحسبالواقع، فإنّه كان تاركا للمأمور به رأسا، فلابدّ من إتيانه ولو قضاءً؛ لأنّه لميأت بشيء أصلاً.
وقد يكون موردها عبارة عن أجزاء المأمور به كالشكّ في أنّ للسورة
(صفحه658)
ـ مثلاً ـ جزئيّة أو مانعيّة، فحينئذٍ إن كان المأمور به قابلاً للتكرار فلا موردلأصالة التخيير أصلاً، والحاكم عبارة عن أصالة الاشتغال، ومفادها تكرارالمأمور به تارة مع وجود الشيء المشكوك مانعيّته أو جزئيّته، واُخرى بدونهلحصول العلم بتحقّق المأمور به في الخارج.
وأمّا إن كان الأمر دائرا بين المانعيّة والجزئيّة والمأمور به غير قابلللتكرار، فهو يرتبط ببحث الإجزاء، فإنّ بعد حكم العقل بالتخيير ورعايةالمكلّف جانب الجزئيّة حين العمل وانكشاف المانعيّة يجري البحث بأنّ أصالةالتخيير تقتضي الإجزاء أم لا؟ ويجري هنا ما مرّ في البراءة العقليّة من أنّالعقل بعد دوران الأمر بين المحذورين وعدم الترجيح يحكم بالتخيير، فإنتركه المكلّف أو أتى به في مقام العمل لا يستحقّ المؤاخذة في صورة كشفالخلاف، ولا حكم للعقل بالإجزاء وعدمه، بل هو ينفي المؤاخذة فقط،والقاعدة تقتضي عدم الإجزاء، فإنّه إن كان جزءً تُرك، وإن كان مانعا اُتي به.
وأمّا الاستصحاب فالتحقيق أنّه أصل شرعي كما عليه المحقّقون، ومستندهعبارة عن عدّة روايات متضمّنة لجملة: «لا تنقض اليقين بالشكّ»، فإن شكّالمكلّف في طهارة ثوبه أو بدنه واستصحب الطهارة وصلّى، ثمّ انكشف أنّالصلاة وقعت في الثوب المتنجّس، هل هي مجزية أم لا؟ فإذا لاحظنا أدلّةشرطيّة الطهارة في الصلاة، مثل: «لا صلاة إلاّ بطهور» و «صلّ مع طهارةالثوب والبدن»، فلا شكّ في أنّ الظاهر منها الطهارة الواقعيّة، بحيث إنانكشف فاقديّة الصلاة لها كانت فاقدة للشرط فهي لا تكون مأمورا بهولا تُجزي عنه.
وأمّا إذا لاحظنا دليل الاستصحاب فهو في مورد الشكّ يقول: إذا شككت
(صفحه 659)
في الوضوء وكنت على يقين من وضوئك السابق فأنت باقٍ على يقينك تعبّدلا وجدانا بل ظاهرا، أو أنّ الشارع يحسبك المتيقّن من حيث ترتّب آثاراليقين، أي يجوز لك الدخول في الصلاة بهذا الثوب والبدن المشكوك طهارتهمومع الوضوء المشكوك بقاؤه.
ومن البديهي أنّ العقل بعد ملاحظة هذين الدليلين لا يحكم بالتعارضبينهما، بل يحكم بأنّ دليل الاستصحاب مفسّر للأدلّة المذكورة ومبيّن لمرادهالواقعي، فهو حاكم عليها ولازمه الإجزاء في صورة كشف الخلاف.
وأمّا قاعدة الفراغ والتجاوز ففي الابتداء بحث في أنّهما قاعدتان مستقلّتان،إحداهما: تبيّن وظيفة الشاكّ في أثناء العمل، والاُخرى: تبيّن وظيفته بعدالفراغ من العمل، أو أنّهما قاعدة واحدة. فقال بعض بالأوّل، وقال آخرونـ مثل الإمام قدسسره (1) ـ بالثاني، وأنّ القاعدة هي قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ منمصاديقها، وتحقيق البحث في محلّه.
فإن لم يراع جزءً أو شرطاً استناداً إلى هذه القاعدة ثمّ انكشف الخلاف كملو وقعت الصلاة بدون الوضوء أو بدون الركوع ـ مثلاً ـ فهل يجب القضاء أوالإعادة أم لا؟ ولكن لابدّ لنا في بادئ الأمر من تحقيق أنّ هذه القاعدة هلتكون من القواعد العقلائيّة والشارع أكّدها وأمضاها في ضمن الرواياتالواردة في هذه المقولة، أم تكون من القواعد الشرعيّة؟ وعلى فرض كونهقاعدة عقلائيّة فهل تكون عندهم بعنوان الأمارة والطريق إلى الواقع ـ كحجّيّةخبر الثقة وأماريّته ـ أم لا؟ وكلتا الجهتين محلّ للبحث، ويحتمل أن تكون منالاُصول التعبّديّة العقلائيّة من دون أن تكون لها أماريّة وكاشفيّة، ونظيره
- (1) تهذيب الاُصول 1: 193.
(صفحه660)
البحث في أصالة الحقيقة؛ بأنّ حجّيّتها من باب أصالة الظهور أو من بابالتعبّد، ولا شكّ في أنّ حجّيّة أصالة الظهور عند العقلاء تكون من بابالأماريّة أنّها من الظنون الخاصّة، وأنّ لها كاشفيّة عن مراد المتكلّم في جميعالاستعمالات، الأعّم من الحقيقة والمجاز.
وأمّا أصالة الحقيقة فيحتمل أن تكون من مصاديق أصالة الظهور، وليستمن الاُصول المستقلّة، فهي عبارة عن أصالة الظهور، إلاّ أنّ موردها فيما كانخاليا عن القرينة.
ويحتمل أن تكون أصلاً تعبّديّاً عقلائيّا بدون الارتباط بعنوان الأماريّةوالطريقيّة وأصالة الظهور، وهذا الاحتمال يكشف عن تحقّق أصل عقلائي، لعلّهكانت أصالة عدم النقل أيضا من هذا القبيل، فيحتمل أن تكون قاعدة الفراغوالتجاوز أيضا من هذا القبيل، فالروايات تحمل على الإمضاء والتأكيد لما هوالمتداول بين العقلاء.
ولكنّ التحقيق أنّ في مثل هذه الاُمور ليس للعقلاء حكم بالإجزاء، فإنشكّ في جزء من الأجزاء الدخيلة في ترتّب الأثر للمعجون الكذائي وأمثالذلك فلا تكون طريقتهم عدم الاعتناء به، ولا تتحقّق بينهم هذه السيرة أصلاً،ولو فرضنا تحقّقها بينهم ولكنّهم بعد كشف الخلاف لا يحكمون بالإجزاء قطعا،فلا يكون من هذه القاعدة خبر ولا أثر، فتكون هذه القاعدة استناداً إلىالروايات الواردة قاعدة شرعيّة، أو قاعدتين شرعيّتين، وهذه توجبالتخصّص في أدلّة الاستصحاب، وإذا شككنا حين السجود بإتيان الركوعوعدمه، والاستصحاب يقتضي العدم ولكنّ القاعدة تقتضي الإتيان به، وهكذإن شككنا بعد الصلاة في تحقّقها في حال الطهارة أم لا؟ والاستصحاب يقتضي