(صفحه 91)
لخبر الواحد حكم كلّي آليٌّ بجعل الشارع وإن كان من طريق بناء العقلاءوإمضاء الشارع، ولكن مع هذا لا يمكن القول بأنّ حجّيّة خبر الواحد أمرٌاستقلالي، بل الغرض من الحجّيّة ترتّب الأثر على خبر زرارة فقط، وهكذا فيدليل الاستصحاب، والأمر هنا سهلٌ.
وأمّا الظاهر من دليل أصالة الحلّيّة ـ مثل: «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلمأنّه حرام بعينه» ـ وأصالة الطهارة ـ مثل: «كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّهقذر» ـ فإنّهما استقلاليّتان، كقاعدة «كلّ ما يضمن» وعكسها، فانتقضالتعريف بهما.
ولكن قال الإمام ـ دام ظلّه ـ(1): «وأمّا خروج بعض الاُصول العمليّة فلغرو فيه على فرضه، منها: ذكر كلمة ـ يمكن ـ في التعريف، وقال: إنّما قلنا:يمكن أن تقع... لأنّ مناط الاُصوليّة هو الإمكان لا الوقوع الفعلي، فالبحثعن حجّيّة القياس والشهرة والإجماع المنقول، وخبر الواحد عند من لم يقلبحجّيّته ـ مثل السيّد علم الهدى وابن إدريس ـ بحث اُصولي لإمكان وقوعهفي طريق الاستنباط.
ومنها: ذكر كلمة «الكبرى» فيه؛ كي يخرج به مباحث سائر العلوم، مثل:اللّغة والرجال والدراية، كما تقدّم في كلام بعض الأعلام.
ومنها: عدم تقييد الأحكام بالعمليّة فيه؛ لعدم عمليّة جميع الأحكام، مثلالأحكام الوضعيّة وكثير من مباحث الطهارة وغيرها؛ إذ «الدم نجسٌ» ليكون مورد العمل، بل يحتاج إلى حكم آخر، مثل: كلّ نجس يجب الاجتنابعنه.
(صفحه92)
ومنها: ذكر جملة «الوظيفة العمليّة» فيه، كما ذكرها المحقّق الخراساني قدسسره لإدخال مثل الظنّ على الحكومة.
وذكر الإمام ـ دام ظلّه ـ في آخر كلامه نكتة وهي: أنّ المسائل المتداخلةبين هذا العلم وغيره من مباحث الألفاظ، مثل: ما يبحث فيه عن الأوضاعاللّغوية ـ كدلالة طبيعة الأمر على الوجوب والنهي على الحرمة و... ـ يمكنإدخالها فيه وتمييزها عن مسائل سائر العلوم بكونها آلة محضة، فالاُصولييبحث عنها بعنوان الآليّة والوقوع في كبرى الاستنتاج وغيره بعنوانالاستقلاليّة أو جهات اُخر، ويمكن الالتزام بخروجها عنه، وإنّما يبحثالاُصولي عنها لكونها كثيرة الدوران في الفقه، ولذا لم يقنع بالبحث عنها فيمباحث الفقه، والأمر سهل.
أقول: هذا التعريف مع أنّه من أجود التعاريف من حيث الجامعيّة والمانعيّة،ولكن يرد عليه بعض الإشكالات:
منها: عدم شموله لقاعدة الحلّيّة والطهارة، كما أشار إلى دفعه بقوله: «وأمّخروج بعض الاُصول العمليّة فلا غرو فيه على فرضه» ولكن لازم هذا الدفعخروج البراءة الشرعيّة من مسائل علم الاُصول، ولزوم التفكيك بينها وبينالبراءة العقليّة، والالتزام به مشكلٌ جدّاً.
ومنها: ما أورده المحقّق الأصفهاني قدسسره (1) على صاحب الكفاية، وهو: أنّلازم أخذ هذين الخصوصيّتين في التعريف ترتّب الغرضين على علم الاُصول،فإنّ الواحد لايصدر إلاّ من الواحد، ولا يؤثّر المؤثّران في أثر واحد.
ولكن هذا الإشكال لا يرد عليه؛ لأنّه قائلٌ بأنّ التأثير والتأثّر منوط
(صفحه 93)
بالواقعيّات، ولا ربط لهما في الاُمور الاعتباريّة. وهكذا ترد عليه بعضالإشكالات الغير المهمّة، فهذا التعريف عندنا أجود التعاريف.
في الفرق بين المسألة الاُصوليّة والقاعدة الفقهيّة
تكملة:في الفرق بين المسألة الاُصوليّة والقاعدة الفقهيّة
في التمايز بين المسألة الاُصوليّة والقاعدة الفقهيّة والمعيار في تشخيصأحدهما من الآخر ههنا بيان من المحقّق النائيني قدسسره (1) وهو: أنّ المائز بين المسألةالاُصوليّة والقاعدة الفقهيّة بعد اشتراكهما في أنّ كلّ منهما يقع كبرى لقياسالاستنباط هو أنّ المستنتج من المسألة الاُصوليّة لا يكون إلاّ حكماً كلّيّاً،بخلاف المستنتج من القاعدة الفقهيّة فإنّه يكون حكماً جزئيّاً وإن صلحت فيبعض الموارد لاستنتاج الحكم الكلّي أيضاً، إلاّ أنّ صلاحيّتها لاستنتاج الحكمالجزئي هو المائز بينها وبين المسألة الاُصوليّة، حيث إنّها لا تصلح إللاستنتاج الحكم الكلّي.
وأمّا مثل قاعدة «ما يضمن» وعكسها وإن يستفاد منها حكم البيع الفاسدبعنوان الحكم الكلّي، ولكنّها أيضاً تجري في بيع الفاسد الشخصي، بخلافمسألة «لاتنقض اليقين» فإنّه يستفاد منها أحكام كلّيّة فقط، مثل: وجوبصلاة الجمعة. وأمّا الاُصول العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة فليستمن مسائل علم الاُصول، فإنّ النتيجة الحاصلة منها حكم جزئيّ كحليّة هذالمائع، كما يستفاد هذا من كلام الشيخ قدسسره (2) في الفرائد.
- (2) فرائد الاُصول 1: 544 ـ 546.
(صفحه94)
وللمحقّق النائيني قدسسره (1) بيان آخر في أوائل الاستصحاب، ولكن يستفاد منهأنّ المائز بينهما عبارة عن جهتين:
إحداهما: أنّ النتيجة في القاعدة الفقهيّة تكون جزئيّة تتعلّق بعمل آحادالمكلّفين بلا واسطة، أي لا تحتاج في تعلّقها بالعمل إلى مؤونة اُخرى. وهذبخلاف النتيجة في المسألة الاُصوليّة، فإنّها تكون كلّيّة ولا تتعلّق بعمل آحادالمكلّفين إلاّ بعد تطبيق خارجي، فإنّ عمل المكلّف لا يتعلّق به كون خبرالواحد حجّة إلاّ بعد ضميمة خبر زرارة إليه والمتضمّن بأنّ صلاة الجمعةواجبة.
ثانيتهما: نتيجة المسألة الاُصوليّة إنّما تنفع المجتهد، ولاحظّ للمقلّد فيها،ومن هنا ليس للمجتهد الفتوى بمضمون النتيجة، ولا يجوز له أن يفتي فيالرسائل العمليّة بحجّيّة الخبر الواحد ـ مثلاً ـ القائم على الأحكام الشرعيّة؛لأنّ تطبيق النتيجة على الخارجيّات ليس بيد المقلّد، بل هو من وظيفة المجتهد.
وأمّا النتيجة في القاعدة الفقهيّة فهي تنفع المقلّد، ويجوز للمجتهد الفتوىبها، ويكون تطبيقها بيد المقلّد.
واستشكل عليه بعض الأعلام: بأنّ ما أفاده قدسسره بالقياس إلى المسائلالاُصوليّة تامّ، فإنّ إعمالها في مواردها وأخذ النتائج منها من وظائفالمجتهدين، فلاحظّ فيه لمن سواهم، إلاّ أنّه بالإضافة إلى المسائل الفقهيّة غيرتامّ على إطلاقه؛ إذ ربّ مسألة فقهيّة حالها حال المسألة الاُصوليّة من هذهالجهة، كقاعدة نفوذ الصلح والشرط، باعتبار كونهما موافقين للكتاب أو السنّةأو غير مخالفين لهما، فإنّ تشخيص كون الصلح أو الشرط في مواردهما موافق
- (1) فوائد الاُصول 4: 308.
(صفحه 95)
لأحدهما أو غير مخالف ممّا لا يكاد يتيسّر للعامي، وكقاعدتي «ما يضمن» و«ما لا يضمن» فإنّ تشخيص مواردهما وتطبيقهما عليها لا يمكن لغير المجتهد.
ولذا قال بعض الأعلام في مقام التمايز: إنّ استفادة الأحكام الشرعيّة منالمسائل الاُصوليّة من باب الاستنباط والتوسيط، ومن القواعد الفقهيّة منباب تطبيق مضامينها بأنفسها على مصاديقها، سواء كانت مختصّة بالشبهاتالموضوعيّة ـ كقاعدة الفراغ واليد والحلّيّة ونحوها ـ أم كانت تعمّ الشبهاتالحكميّة أيضاً ـ كقاعدتي «لا ضرر» و «لا حرج»، بناءً على جريانهما فيموارد الضرر أو الحرج النوعي.
واُورد عليه بأنّ قاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكميّة ـ مثل إحرازحكم «المشروبات الكحوليّة» منها ـ لا يكون إلاّ باستنباط حكمه منها معأنّها من القواعد الفقهيّة.
وفيه: أوّلاً: أنّا لا نُسلّم أن تكون قاعدة الطهارة من القواعد الفقهيّة، ولفرق بينها وبين قاعدة الحلّيّة في أنّ كليهما من القواعد الاُصوليّة، ولا يجوزالتفكيك بينهما بوجه.
وثانياً: أنّ تطبيق قاعدة الطهارة على شيء مشكوك فيه ـ مثل: المشروباتالكحوليّة ـ لايكون إلاّ كتطبيق قاعدة «ما يضمن» على البيع الفاسد؛ إذالمشروبات الكحوليّة مصداق نوعي لشيء شكّ في طهارته، فهذا الإيراد غيرتامّ.
والرأي الآخر في المسألة: أنّ القواعد الاُصوليّة يستفاد منها في أكثر أبوابالفقه، ولا تختصّ بباب دون باب كالاستصحاب، وأمّا القواعد الفقهيّة فيستفادمنها في باب واحد، مثل: قاعدة «ما يضمن»، فإنّها تجري في باب العقود التي