(الصفحة 104)
لكان اللاّزم جريان ما لسائر الكلمات فيه أيضاً ، مع أنّا نرى بالوجدان أنّ القرآن على كثرة تكراره وترديده لا يزداد إلاّ حسناً وبهجةً ، ويحصل للإنسان من العرفان واليقين والإيمان والتصديق واللذّة الروحانيّة ما لم يكن يحصل له من قبل .
قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) في وصف القرآن وشأنه: «فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم ، فعليكم بالقرآن ; فإنّه شافع مشفّع ، وماحل(1) مصدّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدلّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم ، وباطنه علم ، ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه .
فيه مصابيح الهدى ، ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجل جال بصره ، وليبلغ الصفة نظره ، ينج من عطب ، ويتخلّص من نشب ; فإنّ التفكّر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحسن التخلّص وقلّة التربّص»(2) .
ولعمري ، أنّ هذا لا يفتقر إلى توصيف من النبيّ والأ ئـمّة المعصومين ـ صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ـ بل نفس الملاحظة الخالية عن التعصّب والعناد تهدي الباحث المنصف إلى ذلك ، من دون حاجة إلى بيان وتوضيح وتبيان .
كما أنّ الإنصاف أنّ هذا وجه مستقلّ من وجوه إعجاز القرآن ; فإنّ الكلام
- (1) ماحل يماحل أي يُدافع ويُجادل ، وماحل مصدَّق أي خصم مجادل مصدّق ، وقيل: ساع مصدّق . النهاية في غريب الحديث والأثر : 4 / 303 .
(2) الكافي : 2 / 599 ، كتاب فضل القرآن ذ ح 2 ، وعنه وسائل الشيعة 6 : 171 ، أبواب قراءة القرآن ب3ح3 .
(الصفحة 105)
الآدمي ولو وصل إلى مراتب الفصاحة والبلاغة ، يكون تكرّره موجباً لنزوله وسقوطه وهبوطه عن تلك المرتبة . وأمّا القرآن ، فكما يشهد به الوجدان لا يؤثِّر فيه التكرار إلاّ ا لتذاذاً ، ولا يوجب ترديده إلاّ بهجةً وحسناً ، وليس ذلك إلاّ لأجل كونه كلام الله النازل لهداية البشر إلى يوم القيامة ، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، فنفس هذه الجهة ينبغي أن تعدّ من وجوه الإعجاز ، كما لا يخفى .
شبهة الخلط والتداخل بين الموضوعات القرآنيّة
إنّ اُسلوب القرآن يغاير اُسلوب الكتب البليغة المعروفة ; لأنّه قد وقع فيه الخلط بين المواضيع المتعدّدة ، والمطالب المتنوّعة ، فبينا هو يتكلّم في اُصول العقائد والمعارف الحقّة إذا به ينتقل إلى الوعد والوعيد ، أو إلى الحِكم والأمثال ، أو إلى بيان بعض الأحكام الفرعيّة ، وهكذا ، كما أنّه في أثناء نقل التاريخ مثلاً ينتقل إلى المعارف ، ولو كان القرآن مشتملاً على أبواب وفصول ، وكان كلّ باب متعرّضاً لجهة خاصّة وناحية معيّنة ; لكانت الفائدة أعظم والاستفادة أسهل ; ضرورة أ نّ المُراجع إليه لغرض المعارف فقط يلاحظ الباب المخصوص به ، والفصل المعقود له ، والناظر فيه لغرض الأحكام لم يكن متحيّراً ، بل كان يراجع إلى خصوص ما عقد له من الفصل أو الباب ، وهكذا .
ففي الحقيقة أ نّ القرآن مع أُسلوبه الموجود المغاير لأُسلوب الكتب المنظّمة المشتملة على فصول متعدّدة حسب تعدّد مطالبها ، وأبواب متنوّعة حسب تنوّع أغراضها ، وإن لم يكن البشر العادي قادراً على الإتيان بمثله والقيام بمعارضته ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يكون حائزاً للمرتبة العليا من البلاغة ، والدرجة القصوى من المتانة والتنسيق ; لعدم كونه مبوّباً كما عرفت .
والجواب: أنّه لابدّ من ملاحظة أنّ الغرض الأصلي من القرآن ونزوله ماذا؟
(الصفحة 106)
فنقول: ممّا لا يرتاب فيه كلّ باحث وناظر أنّ القرآن اُنزل لهداية البشر، وسوقهم إلى السعادة في الدارين ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (كِتَـبٌ أَنزَلْنَـهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّـلُمَـتِ إِلَى النُّورِ) (1) .
وليس هو كتاب فقه ، أو تاريخ ، أو أخلاق ، أو كلام ، أو فلسفة ، أو نحوها ، ومن المعلوم أ نّ الاُسلوب الموجود أقرب إلى حصول ذلك الغرض من التبويب ، وجعل كلّ من تلك المطالب في باب مستقلّ ; فإنّ الناظر في القرآن ـ مع الوصف الفعلي ـ يطّلع على كثير من أغراضه ، ويحيط بجلٍّ من مطالبه الدخيلة في حصول الغرض المقصود في زمان قصير ، فبينما يتوجّه إلى المبدإ والمعاد مثلاً يطّلع على أحوال الماضين المذكورة للتأييد والاستشهاد ، ويستفيد من أخلاقه ، وتقع عينه على جانب من أحكامه ، كلّ ذلك في وقت قليل .
ففي الحقيقة يقرب قدماً بل أقداماً إلى ذلك الهدف ، ويرتقي درجة إلى تلك الغاية ، فهو ـ أي القرآن ـ كالخطيب الذي يكون الغرض من خطابته دعوة المستمعين وهدايتهم ، وسوقهم إلى السعادة المطلوبة في الدنيا والآخرة ; فإنّه يفتقر في الوصول لغرضه إلى الخلط بين المطالب المتنوّعة ، وإيراد فنون متعدّدة ; لئلاّ يملّ المستمع أوّلاً ، ويقع في طريق السعادة من جهة تأييد المطلب بقصّة تاريخيّة ، أو حِكَم أخلاقيّة ، أو مثلهما ثانياً .
فانقدح أ نّ الاُسلوب الموجود إحدى الجهات المحسّنة ، والفضائل المختصّة بالقرآن الكريم، ولا يوجد مثله في كتاب، والسرّ فيه ما عرفت من امتيازه من حيث الغرض ، وخصوصيّته من جهة المقصود الذي يكون اُسلوبه هذا أقرب إلى الوصول إليه .
- (1) سورة إبراهيم 14 : 1 .
(الصفحة 107)شبهة احتقار المعارضة وعدم الإعلان عنها
إنّه قد مرّ(1) في بيان حقيقة المعجزة والاُمور المعتبرة في تحقّقها : أنّ من جملتها السلامة من المعارضة ، وهذا الأمر لم يحرز في القرآن ; فإنّه من الممكن أنّه كان مبتلى بالمعارضة ، وأ نّه قد أُتي بما يماثل القرآن ، وقد اختفى علينا ذلك المماثل ، ولعلَّ سيطرة المسلمين واقتدارهم اقتضت خفاءه وفناءه ، ولولا ذلك لكان إلى الآن ظاهراً .
والجواب عنه أمّا أوّلاً : فقد أثبتنا في مقام الجواب عن بعض الشبهات السابقة(2) عجزهم وعدم اقتدارهم على الإتيان بمثل القرآن ، ومعلوم أ نّه مع ثبوت عجزهم لا يبقى موقع لهذا الوهم ; لأنّه يتفرّع على عدم الثبوت ، كما هو واضح .
وأمّا ثانياً : فالدليل على عدم الإتيان بالمعارض ، أ نّ المعارضة لو كانت حاصلة ، لكانت واضحة ظاهرة ، غير قابلة للاختفاء ولو طال الزمان كثيراً; ضرورة أ نّ المخالفين لهذا الدين القويم ، والمعاندين لهذه الشريعة المستقيمة ، كانوا من أوّل اليوم كثيرين ـ كثرة عظيمة ـ وكانوا مترصّدين لما يوجب ضعف الدين ، وسلب القوّة عن المسلمين ، فلو كانت المعارضة ولو بسورة واحدة مثل القرآن موجودة ، لكانت تلك لهم حجّةً قويّةً ليس فوقها حجّة ، وسلاحاً مؤثّراً ليس فوقه سلاح ، وسيفاً قاطعاً لا يتصوّر أقطع منه ، فكيف يمكن أن يرفعوا أيديهم عن مثل ذلك ؟ بل المناسبة تقتضي شهرتها وظهورها بحيث لا يخفى على أحد .
مع أنّه لم يكن حينئذ وجه لبقاء المسلمين على إسلامهم ; فإنّهم لم يكونوا ليتديّنوا بالدين الحنيف تعبّداً ، ولم يخضعوا دون النبيّ الصادع للشرع تعصّباً ، بل كان ذلك لاجتماع شروط المعجزة في القرآن الكريم ، وعدم اقتدار أحد على
- (1) في ص 18 .
(2) في ص101 ـ 105 .
(الصفحة 108)
معارضة الكتاب المجيد ، كما هو ظاهر .
فانقدح أ نّ المعارض لو كان لبان ، ولم يبقَ تحت سترة الخفاء والكمون ، فاحتمال وجود المانع عن تحقّق الإعجاز ممّا لا يتحقّق من الباحث غير المتعصّب ، والطالب غير العنود أصلاً .
شبهة وقوع المعارضة وتعداد من عارض بلاغة القرآن
إنّ التاريخ قد ضبط جماعة تصدّوا إلى الإتيان بما يماثل القرآن ، وأتوا بسورة أو أزيد ، بل بكتاب يزعمون أنّه لا فرق بينه وبين الفرقان ، ولعلّ ملاحظة ظاهره تقضي بصحّة ما يقولون . إذن فلا يبقى موقع لاتّصاف القرآن بالإعجاز ; لوجود المعارض ، بل المعارضات المتعدّدة . وقد مرّ(1) أنّ من شروط الإعجاز سلامة المعجزة عن المعارضة .
والجواب: أنّه لابدّ من ملاحظة حالات تلك الجماعة ، وخصوصيّات حياتهم ، والنظر فيما أتوا به ـ بعنوان المماثلة ـ ليظهر الحال ، وأ نّ ما أُتي به هل كان لائقاً بأن يتّصف بهذا العنوان ، وصالحاً لأن تنطبق عليه المعارضة للقرآن ، أو أنّ ذلك مجرّد تخيّل وحسبان ؟
فنقول: ـ وعلى الله التكلان ـ إنّ هذه الجماعة القليلة ، والطائفة اليسيرة بين من كانت له داعية النبوّة والسفارة ، وكان كتابه الذي جاء به بعنوان المعجزة ، وبين من لم يكن له تلك الداعية ، بل كان يزعم أ نّه يقدر على الإتيان بالمعارض من جهة اطّلاعه على الجهات الراجعة إلى البلاغة ، والمميّزات الأدبيّة ، وبين من لم يكن له هذه العقيدة أيضاً ، بل كان له كتاب قد استفاد منه المعاندون ، زعماً منهم أ نّه في رتبة