(الصفحة 99)
توجّه التكليف ، وترتّب المثوبة والعقوبة على الإطاعة والمعصية هو هذا المقدار ، وهو صحّة الإسناد حقيقة من دون أن يكون الاستقلال أيضاً معتبراً فيه ; ضرورة أنّ المناط هو صدور الفعل اختياراً ، ووجوده مسبوقاً بالإرادة بمبادئها ، وهو موجود .
ويرشد إلى ما ذكرنا الجملة المعروفة: «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله»; فإنّها تفيد أنّ الحول والقوّة على إيجاد الأفعال إنّما ينتهي إلى الله ، ويستمدّ منه ، ولا يمكن أن يتحقّق مع قطع النظر عن الله والارتباط إليه ، فالحول والقوّة المصحّح لإيجاد الفعل والاقتداء عليه موجود ، ولكنّ الأساس هو الاتّصال به تعالى .
وهذا كما إذا كان إنسان عاجزاً عن إيجاد فعل وأقدره الآخر عليه ، فأوجده بإرادته واختياره ، كما إذا كان الفعل متوقّفاً على صرف مال ، وهو لا يكون متمكِّناً منه بوجه ، فبذل الآخر إيّاه ذلك المال ، فقدر على إيجاده فأوجده ; فإنّه مع كون الفعل صادراً بإرادة الفاعل واختياره ، لا مجال لإنكار كون القدرة على إيجاده ناشئة من صاحب المال الباذل له إيّاه ، ومع ذلك لا يكون التحسين والتقبيح متوجّهاً إليه أصلاً ; لأنّ الملاك فيها هو صدور العمل الحسن أو القبيح بالمباشرة ، ولا يتعدّى عن الفاعل بالإرادة إلى غيره ممّن كان دخيلاً في صدور الفعل وتحقّق القدرة عليه ، إلاّ إذا انطبق عليه عنوان مباشريّ ، كالإعانة على الإثم ، أو على البرّ والتقوى ، فيصير ذلك العنوان لأجل كونه مباشريّاً موجباً لتوجّه التحسين أو التقبيح إليه ، فتأمّل جيّداً .
شبهة وجود العجز عن الإتيان بغير القرآن أيضاً
من الشبهات المتعلّقة بإعجاز القرآن: أ نّ عجز البشر عن الإتيان بمثل القرآن لا دلالة فيه على كونه معجزاً مرتبطاً بمبدإ الوحي ، خارقاً للعادة البشريّة
(الصفحة 100)
والنواميس الطبيعيّة ; فإنّ مثل كتاب «اقليدس»(1) وكتاب الشاعر والأديب الفارسي المعروف: «سعدي» يكون البشر عاجزاً عن الإتيان بمثله ، فلا محيص حينئذ عن اتّصافه بكونه معجزاً ; لعدم الفرق بينه وبين القرآن ، فلا وجه لاتّصافه بكونه كذلك ، كما هو ظاهر .
والجواب: أنّا قد ذكرنا(2) في بحث حقيقة المعجزة أ نّ للمعجز الاصطلاحي شروطاً متعدّدة ، وكثير منها مفقود في مثل الكتابين المذكورين ، فإنّا قد حقّقنا فيما تقدّم(3) أ نّه يعتبر في المعجز أن يكون مقروناً بدعوى منصب إلهيّ ، وأن يكون الإتيان به في مقام التحدّي الراجع إلى دعوة الناس إلى الإتيان بالمثل ; نظراً إلى أنّ توصيف البشر بالعجز الذي هو من النقائص التي يتنفّر عن الاتّصاف بها ، وينزجر عن الاقتران به ، يوجب صرف جميع ما باختيارهم من القوى والإمكانات في الإتيان بالمثل لرفع هذه النقيصة وإبطال هذه التّهمة ، مضافاً إلى أنّ البشر يأبى بالطبع عن أن يلقي طوق إطاعة الغير ـ الذي هو من جنسه ـ على عنقه ، وأن يعتقد بتفوّقه عليه ، ولزوم إطاعته له ، فيسعى في إبطال دعوى المدّعي لذلك إذا كان الإبطال في مقدرته وإمكانه .
وكذا ذكرنا فيما تقدّم(4) أ نّه يعتبر في المعجز أن يكون خارجاً عن نواميس الطبيعة ، وخارقاً للعادة البشريّة ، ومن المعلوم عدم ثبوت هذه الاُمور في الكتابين وأمثالهما . أ مّا عدم ثبوت الأمرين الأوّلين فواضح ; ضرورة عدم ثبوت دعوى
- (1) اقليدس ، عالم يوناني ورياضي ومنجم وفيلسوف مشهور ومتبحّر في علم الهندسة ، زندگينامه علمى دانشوران: 2/1 ـ 47، دائرة المعارف، دانشمندان علم و صنعت: 1/64ـ67، دائرة المعارف فارسى: 1/184.
(2) في ص 13 ـ 22 .
(3) في ص13 .
(4) في ص15 .
(الصفحة 101)
منصب إلهيّ ، وعدم وقوع التحدّي بالإضافة إلى الكتابين . وأ مّا عدم ثبوت الأمر الأخير ; فلأنّ الإتيان بمثل الكتابين لا يكون بممتنع عادةً أصلاً ، خصوصاً لو اُريد الامتناع ولو اجتمع أزيد من واحد ، كما هو ظاهر .
شبهة العجز عن المعارضة بسبب الخوف والتطبّع على القرآن
إنّ ما نراه ونقطع به هو: أنّ العرب لم تعارض القرآن ، ولم تأت بما هو مثله ولو سورة منه ، إلاّ أ نّه لم يعلم أنّ عدم الإتيان كان مسبّباً عن عدم القدرة ، وعدم الاستطاعة على الإتيان بمثله حتّى يتّصف القرآن معه بالإعجاز ، فلعلّ عدم الإتيان كان معلولاً لجهات اُخرى لا تعود إلى الإعجاز ، ولا ترتبط به ، بل الاعتبار والتاريخ يساعدان على ذلك ; نظراً إلى أنّ العرب الذين كانوا معاصرين للدعوة ، أو متأخّرين عنها بقليل ، كان يمنعهم عن التصدّي لذلك والورود في هذا المجال ، الخوف الناشئ من سيطرة المسلمين واقتدارهم ، المانع عن تجرّي العرب على القيام بمعارضة القرآن الذي هو الأساس في الإسلام ، وصدق النبوّة ، وبعد انقراض الخلفاء الأربعة ، وتصدّي الأمويّين للزعامة الإسلاميّة صار القرآن مأنوساً لجميع الأذهان ، راسخاً في القلوب ، ولم يبقَ معه للقيام بالمعارضة مجال .
والجواب: أ نّ عدم الإتيان بمثل القرآن في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وحياته لا يتصوّر له وجه ، ولا يعقل له سبب غير العجز وفقدان القدرة ; من دون فرق بين الزمان الذي عاشه (صلى الله عليه وآله) في مكّة المكرّمة ، والزمان الذي عاشه (صلى الله عليه وآله) في المدينة المشرّفة:
أمّا البرهة الاُولى مع وقوع التحدّي فيها ، فواضح من أنّه لم يظهر للإسلام في تلك البرهة شوكة ، ولا للمسلمين مع قلّة عددهم اقتدار وسيطرة ، بل كان الخوف ثابتاً لهم كما يشهد به التاريخ ويساعده الاعتبار ، فما الذي منع الكفّار من العرب في هذه البرهة من الزمن عن الإتيان بمثل القرآن ، مع أنّهم تشبّثوا بكلّ طريق إلى
(الصفحة 102)
إطفاء نور النبوّه ، وإرضاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) برفع اليد عن الدعوة ، والإغماض عن الكلمة ، ولو بتفويضهم إليه الزعامة والحكومة ، وتمكينه من الأموال والثروة ، والأبكار من النساء الجميلات ؟
ومن المعلوم أنّه لو كان فيهم من يقدر على الإتيان بسورة مثل القرآن لما احتاجوا إلى الخضوع في مقابله بمثل ذلك الخضوع ، الكاشف عن الاضطرار والعجز الذي يتنفّر كلّ إنسان بطبعه عن الاتّصاف به .
ويدلّ على ما ذكرنا ما قاله الوليد بن المغيرة حينما سأله أبو جهل ، وأصرَّ عليه أن يقول في القرآن قولاً ممّا هذا لفظه المحكيّ: «وماذا أقول! فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّي ، ولا أعلم برجَزِه ولا بقصيدة ، ولا بأشعار الجنّ ، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا ، ووالله إنَّ لقوله الذي يقول حلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنّه ليعلو ولا يُعلى عليه ، وإنّه ليحطّم ما تحته» .
قال(1) : لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه ، قال : دعني حتّى أفكّر ، فلمّا فكّر قال: هذا «سحر يؤثر» بأثره عن غيره(2) .
اُنظر إلى هذا الاعتراف الصادر عمّن يدّعي الأعلميّة في الجهات الأدبيّة ، الراجعة إلى الفصاحة والبلاغة ، ويصدّقه فيه المخاطب ، ولأجله تشبّث به ، ورجع إليه ، وأصرّ عليه أن يقول في القرآن قولاً ، فمع مثل هذا الاعتراف ، هل يتوهّم عاقل أن تكون العلّة لعدم الإتيان بمثل القرآن غير العجز ، وعدم القدرة ، خصوصاً مع تصريحه بأ نّه يحطّم ما تحته ، وأ نّه يعلو ولا يُعلى عليه؟
وأ مّا البرهة الثانية التي كان الرسول (صلى الله عليه وآله) فيها مقيماً بالمدينة المشرّفة ، فالدليل
- (1) أي قال أبو جهل لوليد بن المغيرة .
(2) المستدرك على الصحيحين 2: 550 ح3782 ، الإتقان في علوم القرآن ، للسيوطي 4 : 5 ، أسباب النزول: 252 ـ 253 ، باختلاف .
(الصفحة 103)
على عجزهم عن الإتيان بما يماثل القرآن في تلك البرهة، ما أشرنا إليه من اختيارهم المبارزة بالسنان ، والمقابلة بالسيوف على المعارضة بالبيان، والمقابلة بالحروف ، مع أنّه ليس من شأن العاقل ـ مع القدرة والاستطاعة ـ على إسقاط دعوى المدّعي والتحفّظ على عقيدته ومرامه ، وصون جاهه ومقامه ، من طريق البيان ، وتلفيق الحروف ، وتأليف الكلمات أن يدخل من باب المحاربة ، ويعدّ نفسه للمنازعة المستلزمة للخطر والمهلكة ، وصرف أموال كثيرة ، وتحمّل مشاقّ غير عديدة .
وإذن فالدليل الظاهر على عجزهم في تلك المدّة وقوع الغزوات الكثيرة بينهم ، وبين المسلمين! .
وأمّا بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وزمن الخلفاء ، وسيطرة المسلمين ، فقد كان أهل الكتاب يعيشون بين المسلمين في جزيرة العرب وغيرها ، وكانوا لا يخافون من إظهار مرامهم ، وإنكارهم لدين الإسلام ، وعدم اعتقادهم به ، فكيف يحتمل خوفهم من الإتيان بما يعارض القرآن ويماثله ، لو كانوا قادرين على ذلك ؟
وأمّا ما ذكره المتوهّم أخيراً من أنّه بعد انقراض عهد الخلفاء الأربعة ، ووصول النوبة إلى الأمويّين صار القرآن مأنوساً لجميع أذهان المسلمين ، بحيث لم يبق مجال لمعارضته بعد رسوخه وتكرّره .
فالجواب عنه: أنّ مقتضى الطباع البشريّة أن يكون التكرار للكلام ـ وإن بلغ ما بلغ من البلاغة وارتفع مقامه من الفصاحة ـ موجباً لنزوله وهبوطه عن ذلك المقام المرتفع ، بحيث ربما يبلغ إلى حدّ التنفّر والاشمئزاز ، هذا لا يختصّ بالكلام ، بل يجري في جميع ما يوجب ا لتذاذ الإنسان من المحسوسات ; فإنّ اللّذة الحاصلة منها في الإدراك الأوّل لا ينبغي أن تقاس مع ما يحصل منها في الثاني والثالث وهكذا ، بل تنقص في كلّ مرّة إلى حدٍّ تبلغ العدم ، بل تتبدّل إلى الضدّ .
وأمّا القرآن ، فلو لم يكن معجزاً صادراً من مبدإ الوحي ومعدن العلم ،