(الصفحة 109)
القرآن من حيث البلاغة والفصاحة ، أو إغراءً وإضلالاً من دون زعم واعتقاد .
ولابدّ من النظر في حالاتهم وإن كانت نفس مخالفة مثل هؤلاء ، وقيامهم في مقام المعارضة ممّا يؤيّد إعجاز القرآن ، ويثبت تفوّقه ووقوعه في المرتبة التي لاتكاد تصل إليها أيدي البشر ، بداهة أنّ الكتاب الذي اعترف بالعجز في مقابله البلغاء المشهورون ، والفصحاء المعروفون ، والاُدباء الممتازون ، وخضع دونه المحقّقون والمتبحِّرون ، تكون مخالفة أمثال تلك الجماعة له دليلاً على قصور باعهم ، أو انحرافهم وضلالهم ، وهذا شأن كلّ حقيقة وآية كلّ واقعيّة ; فإنّ عدم خضوع أفراد قليلة غير ممتازة في مقابلها ، وعدم تسليمهم لها يؤيّد صدقها ، ويدلّ على النقص فيهم ، ولكن مع ذلك لا بأس بالنظر في حالات تلك الجماعة ، وفيما أتوا به بعنوان المعارضة . فنقول:
1 ـ مسيلمة بن حبيب، المعروف بالكذّاب
كان من أهل اليمامة ، وقد ادّعى النبوّة في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) في اليمامة في طائفة بني حنيفة ، وكان ذلك بعد تشرّفه بمحضر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقبوله للإسلام(1) ، وكان يصانع كلّ أحد ويتألّفه ، ولا يبالي أن يطّلع الناس منه على قبيح ; لأنّه لم يكن له غرض إلاّ الزعامة والرئاسة ، وكان يرى أ نّ ادّعاء النبوّة طريق إلى الوصول إليها ، وإلاّ فليس لها حقيقة وواقعيّة ، بل هي نوع من الكهانة الرائجة في تلك الأعصار ; ولذا طلب من النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يشركه في النبوّة ، أو يجعله خليفة له بعده ، وقد كتب إليه (صلى الله عليه وآله) في العام العاشر من الهجرة : «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، سلام عليك ، أمّا بعد ; فإنّي قد أُشركت في الأمر معك ، وإنّ لنا نصف الأرض ، ولقريش
- (1) السيرة النبويّة لابن هشام 4: 222 ـ 223 ، تاريخ الاُمم والملوك للطبري : 3 / 137ـ 138 ، السنة 10 ، الكامل في التأريخ لابن الأثير 2 : 162 .
(الصفحة 110)
نصف الأرض ، ولكنّ قريشاً قوم يعتدون» .
فقدم عليه رسولان له بهذا الكتاب ، فقال لهما حين قرأ كتاب مسيلمة: فما تقولان أنتما؟
قالا : نقول كما قال . فقال: أما والله لولا أ نّ الرسل لا تُقتل لضربت أعناقكما .
ثمّ كتب إلى مسيلمة : «بسم الله الرحمن الرحيم ; من محمّد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب ، السلام على من اتّبع الهدى . أ مّا بعد ; فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين»(1) .
وكان معه نهار الرَّجَّال بن عُنفُوَة ، وكان قد هاجر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وقرأ القرآن وفقِّه في الدين ، فبعثه معلِّماً لأهل اليمامة ، وليشغب على مسيلمة ، وليَشدد من أمر المسلمين ، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة ، شهد له أ نّه سمع محمّداً (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّه قد أشرك معه ، فصدَّقوه واستجابوا له ، وأمروه بمكاتبة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ووعدوه إن هو لم يقبل أن يُعينوه عليه ، فكان نهار الرّجَّال بن عنفوة لايقول شيئاً إلاّ تابعه عليه ، وكان ينتهي إلى أمره ، وكان يؤذّن للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ويشهد في الأذان أ نّ محمّداً رسول الله ، وكان الذي يؤذِّن له عبدالله بن النَّوّاحة ، وكان الذي يقيم له حُجَير بن عمير ويشهد له ، وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة قال : صَرّح حجير ، فيزيد في صوته ، ويبالغ لتصديق نفسه وتصديق نهار ، وتضليل من كان قد أسلم ، فعظم وَقاره في أنفسهم(2) .
وكان له باعتقاده معجزات وخوارق عادات شبيهة بمعجزات النبيّ (صلى الله عليه وآله) وكراماته.
ومن جملة ذلك أ نّه أتته امرأة من بني حنيفة تكنّى باُمّ الهيثم ، فقالت: إنّ نخلنا
- (1) السيرة النبويّة لابن هشام : 4 / 247 ، تاريخ الاُمم والملوك للطبري : 3 / 146 ، أحداث سنة 10 هـ .
(2) تاريخ الاُمم والملوك للطبري : 3 / 282 ـ 283 ، أحداث سنة 11 هـ .
(الصفحة 111)
لسُحُق ، وإنّ آبارَنا لجُزُر (1)، فادع الله لمائنا ولنخلنا ، كما دعا محمّد لأهل هَزمان ، فقال: يا نَهار ما تقول هذه؟ فقال: إنّ أهل هزمان أتوا محمّداً (صلى الله عليه وآله) فشكوا بُعد مائهم ، وكانت آبارهم جُزراً(2) ، ونخلهم أ نّها سُحق ، فدعا لهم فجاشت آبارهم ، وانحَنَت كلّ نخلة قد انتهت حتّى وضعت جرانها لانتهائها ، فحكّت به الأرض حتّى أنشبت عروقاً ، ثمّ قُطعت من دون ذلك ، فعادت فسيلاً مكمّماً ينمى صاعداً .
قال: وكيف صنع بالآبار ؟ قال: دعا بسجل، فدعا لهم فيه ، ثمّ تمضمض بفمه منه ، ثمّ مجّه فيه ، فانطلقوا به حتّى فرّغوه في تلك الآبار ، ثمّ سَقَوه نخلهم ، ففعل النبيّ ما حدّثتك ، وبقي الآخر إلى انتهائه .
فدعا مسيلمة بدلو من ماء ، فدعا لهم فيه ، ثمّ تمضمض منه ، ثمّ مجّ فيه ، فنقلوه فأفرغوه في آبارهم ، فغارت مياه تلك الآبار ، وخوَى نخلُهم ، وإنّما استبان ذلك بعد مهلكه(3) .
ومن جملة ذلك أ نّه قال له نهار: برِّك على مولودي بني حنيفة ، فقال له: وما التبريك؟ قال: كان أهل الحجاز إذا ولد فيهم المولود أتوا به محمّداً (صلى الله عليه وآله) فحنّكه ، ومسح رأسه ، فلم يؤتَ مسيلمة بصبيّ فحنّكه ومسح رأسه إلاّ قَرع ولَثِغ ، واستبان ذلك بعد مهلكة(4) .
ومنها: أ نّه دخل يوماً حائطاً من حوائط اليمامة فتوضّأ ، فقال نهار لصاحب الحائط: ما يمنعك من وضوء الرحمن فتسقي به حائطك حتّى يَروى ويبتل ، كما صنع بنو المهريّة ; أهل بيت من بني حنيفة ـ وكان رجل من المهريّة قدم على النبيّ (صلى الله عليه وآله) فأخذ وضوءه ، فنقله معه إلى اليمامة ، فأفرغه في بئره ، ثمّ نزع وسقى ، وكانت أرضه تهوم ، فرويت وجَزَأت ، فلم تُلفَ إلاّ خضراء مهتزّة ـ ففعل فعادت
- (1 ، 2) كذا فى الأصل، وفي تاريخ الطبرى والكامل: لجُرُز، وجُرُزاً. (3 و 4) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 284 ـ 285 ، الكامل فى التاريخ 2 / 215 ـ 216 .
(الصفحة 112)
يباباً لا ينبت مرعاها(1) .
ومنها: ما في كتاب «آثار البلاد وأخبار العباد» من أنّهم طلبوا منه المعجزة ، فأخرج قارورة ضيّقة الرأس فيها بيضة ، فآمن به بعضهم ، وهم بنو حنيفة أقلّ الناس عقلاً ، فاستخفّ قومه فأطاعوه ! وبنو حنيفة اتّخذوا في الجاهلية صنماً من العسل والسمن يعبدونه ، فأصابتهم في بعض السنين مجاعة فأكلوه ، فضحك على عقولهم الناس وقالوا فيهم:
أكلت حنيفةُ ربَّها *** زمنَ التقحّم والمجاعه
لم يحذروا من ربّهم *** سوء العواقب والتباعه(2)
وحكي أ نّه رأى حمامة مقصوصة الجناح ، فقال: لِمَ تُعذِّبون خلق الله ؟ لو أراد الله من الطير غير الطيران ما خلق لها جناحاً ، وإنّي حرّمت عليكم قصّ جناح الطائر ، فقال بعضهم: سلِ الله الذي أعطاك آية البيض أن ينبت له جناحاً ، فقال: إن سألت فأنبت له جناحاً فطار تؤمنون بي؟ قالوا: نعم ، فقال: إنّي اُريد أن اُناجي ربِّي ، فأدخلوه معي هذا البيت حتّى أخرجه وافي الجناح حتّى يطير ، فلمّا خلا بالطائر أخرج ريشاً كان معه ، وأدخل في قصبة كلّ ريشة مقطوعة ريشة ممّا كان معه ، فأخرجه وأرسله فطار وآمن به جمع كثير(3) .
وحكي أ نّه قال في ليلة منكرة الرياح مظلمة: إنّ الملك ينزل إليَّ الليلة ، ولأجنحة الملائكة صلصلة وخشخشة ، فلا يخرجن أحدكم ; فإنّ من تأمّلهم اختطف بصره ، ثمّ اتّخذ صورة من الكاغذ لها جناحان وذنب ، وشدّ فيها الجلاجل والخيوط الطوال ، فأرسل تلك الصورة وحملتها الريح ، والناس بالليل يرون
- (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 285 ، أحداث سنة 11هـ . (2 ، 3) آثار البلاد وأخبار العباد : 134 ـ 135 .
(الصفحة 113)
الصورة ويستمعون صوت الجلاجل ولا يرون الخيط ، فلمّا رأوا ذلك دخلوا منازلهم خوفاً من أن تختطف أبصارهم ، فصاح بهم صائح : من دخل منزله فهو آمن ! فأصبحوا مطبقين على تصديقه(1) .
ومنها: غير ذلك ممّا هو مذكور في كتب التواريخ كالطبري وغيره .
وقد ورد في شأن الرجّال بن عُنفُوة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ما رواه أبو هريرة : أ نّه قال: جلست مع النبيّ (صلى الله عليه وآله) يوماً في رهط معنا الرَّجَّال بن عنفوة ، فقال: «إنّ فيكم لرجلاً ضرسه في النار أعظم من اُحد » فهلك القوم ، وبقيت أنا والرّجال . فكنت متخوّفاً لها حتّى خرج الرّجال مع مسيلمة ، فشهد له بالنبوّة ، فكانت فتنة الرّجال أعظم من فتنة مسيلمة(2) .
وبالجملة : كان مسيلمة يزعم أنّ له قرآناً ينزل عليه بسبب ملك اسمه «الرحمن» وكان كتابه مشتملاً على فصول وجملات ، بعضها مرتّب ، وبعضها مشتمل على الحوادث الواقعة له ، والقضايا المتضمّنة لأحواله وأوضاعه ، وبعضها جواب عن الأسئلة ، ولكنّ الجميع مشترك في أمر واحد ; وهو الدلالة على قصور عقل صاحبه ، وضعف مرتبته العلميّة ، وجهله بحقيقة النبوّة ، وعدم اعتقاده بعالم الآخرة وما وراء الطبيعة . ولذا ورد فى حقّه: أنّه قيل للأحنف ـ وكان من زفّ سجاح بنت الحارث الى مسيلمة الكذّاب ـ : كيف وجدته؟ قال: ما هو بنبيّ صادق ولابمتنبّئ حاذق(3).
وحكي عن عمير بن طلحة النمري ، عن أبيه ، أنّه جاء اليمامة ، فقال: أين مسيلمة؟ فقالوا: مه رسول الله ! فقال: لا ، حتّى أراه ، فلمّا جاءه قال: أنت مسيلمة؟
- (1) آثار البلاد وأخبار العباد: 135 ـ 136 .
(2) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 287 ، أحداث سنة 11 ، البداية والنهاية: 6 / 317 .
(3) محاضرات الاُدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء: 4 / 162 .